Share |

ملفّ ( سما كرد) عن الشاعر محمود درويش -الجزء الأخير

مشاركة الفنان العراقي ( حيدر الياسري )
مشاركة الفنان العراقي ( حيدر الياسري )

 محمود درويش يجمعُ الأدباءَ في - سما كرد " عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسَْتحِقُّ الحَيَاةليسَ فخراً لموقع سما كرد للثقافة و الفنون لأنه الموقعُ الوحيدُ الذي أنجز هذا الملفَ من بين كلّ المواقع العربية و الكردية عن محمود درويش , ليقين الموقع أنّ درويش عانقَ الألم أينما كانَ , سواءً كان عربياً أو كرديا , أو في العموم ( إنسانياً ) . درويش دافعَ عن الإنسان أينما كانَ , و لذلك رثاه مَنْ كان .

من نافلة القول أن نقولَ : إنّ درويش اختارَ مِنْ بين كلّ أدباء العالم أديباً كردياً عالمياً: ( سليم بركات ) ليشاركه في تحرير مجلة ( الكرمل) , و ليس من الغريب أنْ يكون سليم بركات أوّل مَنْ رثاه بنصٍّ في غاية الوفاء . هكذا يكون الكرديّ وفياً لشاعرٍ فلسطينيّ شاركه كلّ همٍّ إنسانيّ و إبداعي . كان درويش وفيّا للإنسان , فجاء ملفّه ديناً على سما كرد , و نظنُّ أننا قد وفينا بجزء منه .

باسم رئيس الجالية الكردية في الإمارات, و مدير مؤسسة سما الأستاذ عارف رمضان , وأسرتها نشكر كلّ مَنْ ساهمَ وتابعَ وناقشَ وانتقدَ وعلقَ على هذا الملفّ .

المعدّ : عبداللطيف الحسيني .

 

========================

(1)

نعي في الاربعين...

( هناء شوقي -  فلسطين )

 

نعي من أربعين سوسنه وأفق..
للشاعر الإنسان..
من تاء التأنيث
من ثمرات حيفا ورام الله..
من أقراص ألحلم في ثقوب رسائلنا،
من أعناق البنادق والورد،
من زند ألسنابل
 من ضفائر سكينة وسلمى وأم أسيل،
من تفاصيل النساء الصغيرة..
من طلاءنا، من حناءنا، من سماءنا،
من شاعرات دفء هذا الوطن
وأميات الغابسية وأم الشوف.
من كل غيمة يانعة،
هربت من بين أغلال أبيها وأخيها..
من أرحام الحلم،
من كل الفراشات المحلقة فيك
المختبئة فيك!
من كل سجينة قرأتك..
وكل ثاكلة سردتك..
من كل عاشقة أوجعها رحيل عابر
وناحت فوق رخام قصائدك..
من كل جامعية خبأت كلماتك من جنود الحاجز
أو تحت ألوسادة لتتابعك في الغد،
من مواسمنا الطارئة
من سنونوات غفون تحت ظل جداريتك...
وسافرن بأثر ألفراشة..
واستهوين السقوط برباعية لاعب النرد..
من تفاحات وسرب..
من غزل اوغسطس فوق ترابك الرطب..
نرثيك من بعد، عن قرب..
من ثائرات تتلمذن من نزق ورقك،
 التحليق خارج السرب!
ننعاك بكامل الفقدان،
وداعا...

 

==============================================

 

برحيلك اكتملَ الغيابُ

(2)

إياد خزعل

         

                                         إلى روح الشاعر الكبير محمود درويش

رحلتَ أنتَ؟!

وكنتَ تركْتَني أمضي إلى لغة الحدادِ

لكي أكونَ مزيّناً برثاءِ نجمٍ

ظلَّ يحرسُ موتَهُ

حتّى أتاهُ ملاكُ موتٍ

في زيارتِه الأخيرةِ

فاستراحَ من الرحيل ...

ها أنتَ تنعاكَ الغيومُ

وترتجلُ النجومُ

كلماتِ حزنٍ قد تليقُ بقامتِكْ

وأردتَ أن تحيا لتحترمَ القيامةَ

فمتى القيامةُ ، كي نسيرَ إلى خُطاكَ

ولا نبدّلُ منزلَك؟!

هي آخرُ الأشواطِ تكتبُها

فكيفَ تركتَ قصيدةً

 تمضي إلى نهايتِها الحزينةِ

في غيابِكْ؟!

الآنَ تعلو كالمسيحِ على الصليبِ

فأنتَ أجدرُ بالعلوِّ وبانتظارِ الياسمينْ

فكيفَ تتركُ كلَّ شيءٍ؟؟

لا حصانَ الآنَ يبقى في انتظارِكَ

وحدَها أمُّكَ

سوفَ تبكي دمعتينِ وتنزوي في ذكرياتِكَ

وستوقفُ التفتيشَ يوماً في ثيابِكَ

عن نساءٍ أجنبيّاتٍ عبرْنَ أغنيةً

باطلٌ هذا الوجودُ

وباطلٌ ما نستطيعُ من البقاءِ بعدَكَ

الآنَ تنتصرُ البلاغةُ في القصيدةِ

تسمو بموتِك فوقَ كلِّ بلاغةٍ سبقَتْ

كم أنتَ تحملُ خوفَنا وحنيننا للأرضِ!

ستبكيكَ الكمنجاتُ الّتي صدحَت

في أرضِ أندلسٍ بعيدةْ

ستعلّقُ الجدرانُ

بعضاً من فصولِ الموتِ

فوقَ بياضِها

ماذا لو أنّ الموتَ أيضاً أجّلَكْ؟؟!

فنحنُ أصغرُ من رثائِكَ

ونحنُ ننتظرُ الوداعَ

كعاطلينَ عن الأمل...

" ريتا " سترمي اليومَ

في قعرِ الحياةِ مسدّساً

ستلمّ آثارَ الجواربِ

 عن مقاعدَ غادرتْها

وتمعنُ من جديدٍ

في مسوّدةِ القصيدةِ

ولسوفَ تندمُ

 أنّها رحلتْ إلى المجهولِ

 ليدركَكَ الرحيلُ

وعلى الأرضِ ما يستحقّ حياةَ شاعرْ

لكنّ أرضَكَ وحدَها تبكي كأمِّكَ

تبكيكَ في صمتٍ أماكنُ زرتَها ..

يبكيكَ زيتونٌ وليمونٌ

وتقولُ بنتٌ في دمشقَ

لماذا تركتني ورحلتْ؟؟!

هيتَ لك!

ما أجملَك!

أسرعتِ الحياةُ ولم تعِ

أنّ انتظارَكَ كانَ صعباً

والموتُ لم يكنِ النهايةَ

يا موتُ أنتَ غدرتَ دوماً

بالأحبّةِ

ماذا فعلتَ؟؟

وماذا تفعلُ؟؟

فأنا أقولُ:

ما أجهلَكْ!  ما أجهلَكْ! 

ماذا تبقّى الآنَ من أثرِ الفراشةِ؟؟!

كيفَ تطيرُ فراشةٌ

في ضوءِ روحِكَ؟؟

الآنَ ترتجلُ الغيابَ

وتستريحُ من التقمّصِ

 في جناحِ الطيرِ

كي تجدَ البلادْ ...

لاشيءَ بعدَكَ يستحقّ الانتظارْ

لا بحرَ يفتحُ بابَه للعابرينَ

 إلى النهايةِ

لا مرآةَ تكسرُها

فتتّسعَ الحقولُ لعيدِ كرمتِها

وكنعانيّةٌ تبكي

 لأنّك لم تزيّنْها بشهوةِ ضدِّها

لم تأتِ في عيدِ الحصادِ

فتلمَّ سنبلةً تكابرُ

في أرضِ كنعانَ الحزينةْ

                                              إياد خزعل / 9 / 8 / 2008   

===============                          

 

(3)

محمود عبيد الله القادري

عندما نُحدّق في الشمس محاولين تحديد ملامحها تنكسر عيوننا وكذا عندما نكتب عن شاعرٍ بحجم ( محمود درويش ) فإن القلم يهتز وتتساقط الكلمات.

لن أقول بأني نهلتُ من شعره وهِمت معه منذ الطفولة بل كانت تروقني القصائد الصوفية والمعلقات وكنت أحفظها عن ظهر قلب إلا أنني أذكر في ثمانينيات القرن الراحل أيام الانتفاضة كانت تطرق سمعي عبارات شعرية وأسماء شعراء كسميح قاسم ومحمود درويش ورغم ذلك لم أتعرف جيداً إلى الشاعر الباقي بقاء كلماته الثائرة ، بقاء الليمون ، بقاء تراب الكرمل .

حين تابعت له أمسيةً شعرية متلفزة أذهلني أسلوبه الشعري وتدفُّقَ كلماته النابعة من قلبٍ حوى الوطن والحبيبة و شظايا العمر ، لقد بدل ستائري الشعرية القديمة وأدخل إلى غرفة فكري نور الشعر الحديث الذي يركز على البوح والإبحار مع الكلمات والمعاني ، فهو لم يهدم مِسلّات الشعر الكلاسيكي بل بنى مع رواد الشعر الحديث مسلّة مجاورة بألوان طيفٍ آخر .

لقد رحل الشاعر الكبير محمود درويش بعد أن أطلق العنان لفرس القدر ولكنه ترك ما ترك وهذه باقة مشاعر ألقيتها على ضريحه

" رحلتَ

رحلت دون أن توَدّعها

دون أن تُودِعها سرك

أبقيتها للشتات

عشقتها ندري

حملتها ولم تحملك

كلماتك كُنتها .. قُلتَها

...هل كانت كلمات ؟

نسيتَها على شُرفة الريح

وأغلقتَ في وجهها

شباك النجاة

لمن تركتها

للعابثين بالنرحس

للقابعين تحت وطأتها

للهاربين منها إليها

حاروا ..

فمن سيطوي بها

 الشعر

 المسافات

لم يسمعوا أنينها

حين تركت القلب

 يصافح القدر

لم يدركوا أنها

لفارسٍ قد – قيل – مات "       

=============================

 

قم وعانق الحوريات

(4)

قصيدة لروح الإنسان محمود درويش *

عُبور درويش

جديدة-البروة-( الجليل)                           

 

 

نفيت من زوايا بيتك القديم
فاحتضنتك رمال كل الأوطان
وتركتنا غرباء على أرضنا
كدنا أن ننسى الحقيقة
قلبنا بعض القصائد
وانحنينا حياء لحقيقة الكلمات
غرقنا في حالة تيهان
كم صدقنا حين اعترفنا لأنفسنا أننا ضعفاء

منذ أزهرت براعم الكلام على لساني
حفظت مُجبرة ودون فهم " سجل أنا عربي"
وترعرعت أتلذذ جنون المعاني المعقدة

يا صاحب الصهيل الأخير
إنك الآن صامت.. وأي صمت هذا يدوي الآذان
إنني أقف على شرفتي المعتمة
وقبس نور يتسلل من شموع العزاء
أشواك الندم تلسعني وتخنقني علامات السؤال
بالأمس مررت من هنا قاصداً إحدى الأخوات
هرعت نحوك لأصافحك..
ارتعشت أناملي وتراجعت خطواتي بخجل
ودون أن تلاحظني عدت إلى شرفتي
 وغمرت رأسي بين قصائدك كعصفور بلا أجنحة
أعترف أني خجلت من خجلي
ولكني على الأقل قادرة أن أعترف
هل اخترتنا أم القدر فعل
كي نكون جديرين بك وأن نرفع صورك فوق جدراننا الحزينة
يا محارباً بلا سلاح... انهض من سباتك الأبدي
قم للحظة واحدة.. نحتاج بعض سطور
اختنقت الحروف وتشوهت العبارات
وانطوينا على أنفسنا بين الصفحات
قم  ..  يناديك هديل الحمام
وتناديك المفردات المبعثرة
لو أنك هنا في البيت القديم..
لو أنك تدري أي حمل على كتفي
لو انك تراني أرفع وشاح أمك عن عينيها
وأمسح دمعها حتى لا تخجل منه وأنت غارق في نومك الأخير
هذا أقل ما بوسعي.... أو ربما أكثر ما بوسعي
صراخي صامت... وحتى صمتي صامت
أنظر إليك مستلقياً في حضن أمك 
إنها ترحب بالمعزين بلباقة
ترفع الوشاح وتمسح به الدموع عن الصورة
تخنق الآهة في داخلها وتحاول أن تحبس السيل
وهل تقدر الجفون أن تقف بوجه السيل
ليتني عاجزة عن السمع... وعن الرؤية
أراها تقبل صورتك..
إنها تكلمك ولكنك صامت
يا آخر الشعراء... انهض للحظة واحدة
قم واكتب قصيدة الوداع
انهض واحمل قلمك
.. من غيرك يواسي حورية؟!
من غيرك يعانق كل الحوريات ؟

 

 

سفر أبدي..

 

 

انتظرتك حوريه ..وطال الانتظار

خنقتها الآهات ..أنهكت قواها  محاولة  استرجاع الذكريات

..كلت راحتاها..من تحسس تعابير وجهك في صورك القديمة

لم تقم لعناقها..

لم تعد لمواساتها...

.حتى أنك لم ترسل طيفك ليطفئ لهيب الفراق

عزمت الرحيل ..

بعد أن رزمت حقيبة الذكريات

وودعت بهدوء جدران بيتها القديم..

لم تودع الجيران..فقد  ودعتهم يوم ودعوك

حينها أيقنت أنها لاحقة..

حينها أيقنت أنها ستتحرر من قيود الانتظار

حينها منحت نفسها ذرة أمل ..

أنها ستلقاك..

فأنت لم تعد مهجراً..

وهي لن تبق لاجئة ...

  ملاحظه :حوريه هي المرحومة

                        والدة محمود درويش رحمهما الله

================== 

(5)

أنس الفيلالي

 

الغريب

 

إلى الشاعر الكبير محمود درويش

 

"  كل ما في بلدتي

يملأ قلبي بالكمد

بلدتي غربة  روح و جسد

غربة من غير حد

غربة فيها الملايين

وما فيها أحد

غربة موصولة

تبدأ في المهد

ولا عودة منها .. لأبد "

 

أحمد مطر

 عن قصيدة الغريب.

 

 

تخطفني نسمات...

تبحث في آخر الليل

عن أفواه ..

تفتح أبواب الخوف..

أتعذب داخل نار الصمت

أنحت للخطاة بأسرار الماء

بشفاهي …

أنقََُُشُ على خرير خطاهم

كل الكلمات المتهاطلة متهمة

تتعالى سقطاتها

و حروف الفراق ترقب

في فراغاتها جذور

محفورة بناقوس الفضة

كل الكلمات المتجعدة مكسوة..

كلما لامس الغريب

صفعته الكلمات المتوهجة..

في فراغاتها انحناءات

أشلاء مبعثرة ...

أوراق ممزقة ...

أقلام فارغة..

من عتمتي ليل ...

ومن قصائد عذرية..

 حروف ..

تكتوي بنار الاحتضار

نرجس،

وشوك،

 وأعناب…

مثل عاصفة خفيفة

نطقت عن الهوى

شعرية ...

مشيت طويلا

 مسهد العينين ,

من حافة الكلمات...

 أستغيث ...

لم أستجد أحدا كي يكلمني

الصحو للموتى القدامى

و للغريب دوما أشتاق ...

 

الحي الجامعي، تطوان،

=====================

الحُزنُ شُرفة لا تنتظرُ أحَدًا

إلى روح الشاعر العربي الكبير محمود درويش

(6)

أحمد الدمناتي

 

 

صديق يتسلل متعبًا بحكايةِ الوردِ
مات درويش
عاشَتِ القصيدة
درويش والقصيدة تُفاحتان تعلقانِ الندى
من خَيْطِ أغنيةٍ
هل الجِراحة تصطادُ الجسد أم القصيدة
الشعراء يرحلون دون خجلٍ
كأطفالِ يبيعون سَلة الذكريات لامرأةٍ عاشقةٍ
( لا تعتذر عما فعلت)
فالقصيدةُ لا تعترف بجريمتها في تهديدِ البَيَاضِ
الحزن شُرفة لحنينٍ لا ينتظرُ أحدًا
الحُزنُ طفلٌ أنيقٌ يُوبخ سيرةَ أخطائهِ
كُل صباح أمامَ المرآةِ
الحُزنُ رسالة امرأةٍ لصديقٍ مَدْفونٍ في رحمِ الغيابِ
تُطل الدموع الدافئة كالسناجبِ الخائفةِ
من كَهْفِ غَيْمَةٍ غسلت جُنونها
بِقلَقِ ساعي البريدِ
الموتُ خَرِيطَة تُكَذب توقعات الجغرافيينَ
المَوْتُ خيانة لِصمْتٍ كَثِيفٍ يُرَوضُ عبقرية الجراحِينَ.
العرائش/المغرب   

 -------------------------------------- 

 

غزة و الحرب

(7)

عفراء نبيه الحسن

كانت جالسة حائرة , لا تدري كيف تتصرف . و إلى أين تتجه . عيناها تدوران في أرجاء الغرفة تبحث عن شيء أضاعته , تناولت ديوان شعر قرأت كلمات هزت مشاعرها .

  ( أنا اسم بلا لقب ... صبور في بلاد كل ما فيها... يعيش بفورة الغضب)

في تلك اللحظة خرق سمعها صوت مذيعة التلفاز . تقدم لعرض فيلم وثائقي بعنوان ( الأطفال و الحرب) تاهت عيناها في سماءات الوطن و شاشة التلفاز. كانت صور الأطفال تتلاحق عبر الشاشة , أطفال بعمر زهور الليمون و الياسمين لم يتجاوزوا العقد الأول منهم من يقذف الدبابات بالحجارة و منهم من يجمع الأحجار لرفاقه كي يرموها في وجه جنود العدو المحتل .صدورهم أطفال تتلقى رصاصات العدو القاتلة و عيونهم تلحق صور أمهاتهم التي انحبست الدموع في مقلهم أو في عيونهم . الدموع الحزينة أبت أن تسقط من عيون الأطفال ’ تحولت إلى شظايا من نار تلاحق دبابات العدو التي تطلق القذائف فتقبل كل الأشياء . تدمر البيوت و تقتلع أشجار الليمون و البرتقال التي زرعت بأيدي الأجداد . كل ذلك كان يمر أمام عينيها كسحابة بركان تأتي من بعدها حمم الفسفور والموت و الخراب .

تذكرت قول الشاعر:( كل ليمونة ستنجب طفلاً ... و محال أن ينتهي الليمون )

عندما انطبق الضيق عليها و سورها بقسوته و عناده تذكرت والدها أسرعت نحوه, كان جالساً . عيناه تقدحان شرراً و هو ينظر إلى شاشة التلفاز .

صرخ  :

- اللعنة عليهم.

وقفت قبالته كشتلة زيتون تمسك الأرض بجذورها الغضة .

- كيف يعيش هؤلاء الأطفال تحت هذا الظلم و القتل  و العدوان .

- يا بنيتي . و هل هناك ملاذ آخر , لقد تحولوا إلى أطفال معاقين فأغلبهم قد فقد عينيه أو ذراعه أو جزءاً من قدم .

- كيف يحصلون على الطعام .

من يطلب الموت في كل يوم و في كل لحظة لا يفطن لنوع الغذاء و ضرورة الطعام لقد صار الطعام آخر هم . لو نظرت في وجههم . لعرفت أنهم مصابون بسوء التغذية و الحرمان ... فالعدو يحاصرهم و يمنع المؤن عن قراهم و مدنهم ... آه يا والدي و هل يمر العيد عليهم .

- لو مرّ العيد في قراهم و مدنهم فهو حزين لما أصابهم .

 تذكرت العيد و الأطفال الذين يجوبون الحديقة يرتدون الملابس الجديدة و الابتسامات تزين وجوهم ... قارنت بينهم و بين هؤلاء الصغار العراة الذين يتنقلون في المخيمات بين تلك البيوت المهدمة و التي تحولت إلى أكوام من التراب و الباطون . سألت والدها: أين سيعيشون بعد هدم بيوتهم؟

من فقد كل شيء يعيش في كل مكان بين الأنقاض و تحت الركام و في فوهة مدفع أو طلقة بندقية و يموت دون مقدمات و دون بكاء أو نحيب , أتدرين:

- إن كل واحد منهم قنبلة تتمنى أن تنفجر في جموع هؤلاء الوحوش .لقد فقد أكثرهم والديه و إخوته , فلم يعد لديه ما يحزن عليه , إن المخيمات الموجودة في الأرض المحتلة تفتقر لأدنى الشروط الصحية فالمياه ملوثة .. و الحياة مكتظة بأكوام البشر... حيث لا كهرباء و لا ماء.و الأوبئة تفتك بالجميع صغاراً و كباراً.

لقد عم التلوث كل شيء, فقذائف العدو الملوثة باليورانيوم المنضب و المواد الكيماوية و رائحة الموت و تفسخ الجثث في الشوارع و البيوت لعدم تمكن أصحابها من دفنها لوث كل شيء.

هناك المئات من الأطفال الذين أصيبوا بالأمراض العصبية و النفسية نتيجة الانفجارات و المداهمات و القتل المتعمد لذوي الأطفال و قتلهم في كل مناسبة . لقد تركت الألغام أطفالاً بلا أيد و أرجل . مشوهة عالم الطفولة و مدمرة أحلام العصافير و امبراطوريتهم البريئة.

قالت :

- كيف نجنب هؤلاء الأطفال الحرب.

عندما يعرف الآخر أن العدوان جريمة . و اغتصاب الأرض جريمة , و قتل الإنسان جريمة ... و حماية الأطفال يحمل عبئها الكبار, و الدول التي تضمن حقوق الإنسان ... و هيئة الأمم التي تقر حقوق الدول و الشعوب و تمنح الشعوب حق تقرير مصيرهم. و نحن كأمة واحدة علينا أن ندافع عن أطفالنا باصطفافنا جنباً إلى جنب نقدم الغالي و النفيس لندافع عن كل ذرة تراب في هذا الوطن علينا أن نحقق السلام العادل , و أن ندعم كل فكرة تخدم هذا السلام .و بالسلام نجنب العالم من كارثة الحرب النووية و الدمار الشامل بهذا الكوكب الجميل ... فالأطفال فراشات الحب و عصافير السلام دخل أخوها يردد:

( نحن عكا ...  نحن كرمل و حيفا ... والخليل و بيسان و اللطرون ) .

 

===========================================

(8)

محسن الزاهر

وإن وزعوكَ

على كل ريحٍ

تهب علينا

وتحمل من طينكَ الآدميِّ

ومن لغةٍ تستظلُ بظلٍ

تُمارس فيه البلابل عشقاً

ويفقس من بيضها الزنبقيِّ

المغطى بعطرٍ

له نكهةٌ لا تزولُ

ستنبتُ فوق السماءِ

وتحت البحارِ

وفوق التلالِ

وفي كل ركنٍ سيطلعُ هذا الصدى...

كوجه النبيين ليس يحدُّ

وفي قلب من حملوك طويلاً

ستهطل فلاً وأنت تسيلُ

كأني هناكَ

تقولُ: تأخرتَ عن وعدنا..

وأنت تفتّشُ في راحتيَّ

وفي راحتيكَ يطيرُ الكلامُ الجميلُ

سأصطاد هذا المساء

غيوماً كلون البنفسج

إن فرَّ غيمٌ ثقيلٌ على البال

أصنع من وعْكة الريح غيماً

يناسبُ كل الفصول

لتصبح فصلاً جديداً

وتَبزغُ من ناظريك الفصولُ

ولن أخبر الطين عنكَ

ولا الماء لا النار تلمح ما يتلوّى

ولن أفضحَ السرّ كيف استويتَ

وكيف امتزجتَ

وكيف اشتعلتَ

وكيف تقاطرتَ من كل وردٍ نقيٍّ

وكيف انكسرتَ على غصن زيتونةٍ

كلما مال فيها الهِيامُ

أتتكَ تميلُ

وقالت جميلٌ خفيفٌ وعذبٌ

وشمسٌ...

وفيك الحديث يطولُ

وحين افتقدكَ ما كنتُ أذكر شيئاً

فراغٌ يعربد في العدميِّ

وينفخ في ذاكراتي شريطٌ من اللازورد

أكنتُ انتبهتُ إلى مشهدٍ في المنام!

يقول سلامٌ على الراحلين الذين يمرون مثل الكرام

وأهدي سلامي إليكَ فماذا تقولُ

وماذا أقول أنا في مهبٍ من الضوء

ينسج هذي الخلايا

التي تستثير العظام

لكي تستعيد الصفات التي فتقتكَ يماماً

وظلاً لظبيٍ

فصارت حماماً

وكانت عزالاً

فصارت خياماً

وعادت إليك خيولٌ تصولُ

وإن عدت فينا وما بيننا يستحمُ

على فكرةٍ في أعالي الجبال

َتكسرَ صوت المسافةِ

في مستهل الحديث

تعودُ على جنحةٍ في الضمير

فهل خبأَ البُعد صوت الحنين المدوّي

وهل قرّبتنا اللغات

ونحن نطشّرُ هذي الحروف

نعيد الخرائط فوق الطريق

ونلغي التشابه في كل شيءٍ

هناكَ القبيح

وفي دمعتيهِ ينام الجميلُ

ولابدّ من شرفةٍ للقصيد

لكي يتنفّس طعم الرحيل

يقولون بالغتَ في ضخّ هذا الوريد

يقولون عنْكَ بأنّكَ كنتَ

تُسرحُ شِعراً تنقّع في غبشة الوقت

في آنيات لها زخرفات

تكاد من السحر أن تستشف الخيال

وتكتب ما فات من غزلٍ للفراش

فهل كان هدهد عين الثريا

ينام قريراً على كتفيك!

ويصدح بالضوء حيناً

وحين تكون سراجاً يزولُ

==================

قصيدة لم يكتبها محمود درويش

(9)

سعيد حيفاوي

  

" القطارُ الأخير توقْفَ عند الرصيف الأخير "

 هنالك ليلٌ أشَدّ سوادا

" هنالك ورد أقلُّ ُ"

" أنا يوسف يا أبي "

أمامي طقوس ٌ كثار ٌ وليلٌ طويلٌ طويلْ

" أنا يوسف يا أبي "

ويسعدني ان بحرا من الناسِ حولي

من الطيبين ، من البسطاء ، من الصادقين

ولكنني يا أبي في امتعاضٍ حزين

فكل الذبابِ يحاول ان يتقدم

وكل الذئابِ تحاول أخذ مكان

بجانب نعشي ، وتتلو صلاة الغياب

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو بازاحة أمي واخوتي الطيبين

وحولي من الزعماء اناسٌ

يريدون ان يأخذوا صورة حول نعشي

ولو قَدروا اقتلعوا بعض رمشي

ليبقى لهم

وبه يعلنون ارتباطي بهم

عندما يقرب الانتخاب

ولو قدروا مزقوا لحم روحي

انا يوسف يا أبي

انا طيب ، غير اني

قليل السذاجة ، يا أبتي

مثلما كنتُ دوما قليل العتاب

انا يوسف يا أبي

كل الناس بلادي وكل بلاد

رفاقي وأهلي

ولكنني لا أزال وسوف أظل الى أبد الآبدين

عدو الذباب !

 

تزاوج الشعري والنثري بشرعية الشعرية الرمزية   قراءة أولى في ) :

" كزهر اللوز أو أبعد "

(10)

جاسم الطارشي

 

جاءت التجربة الشعرية الدرويشية في ديوان " كزهر اللوز أو أبعد " لتجسد التحقق الفني الدرويشي البارز الذي عكسته قلة نبرة الاغتراب ،حيث وصلتْ تلك النبرة الاغترابية الدرويشة  إلى درجة كبيرة من الاستقرار؛ بعد أنْ أرستْ سفنها الدائخة وقلوعها الحائرة  على شواطيء  الحقيقة الفنية ,  الأمرُ الذي أبرز"الشعرية  الرمزية " وجعلها ملحة في هذا النتاج الدرويشي البديع  من خلال  شعرنة الكلمات النثرية العادية ، حيث اكتسبتْ شعريتها من الشعرية الرمزية، بتفاعلها مع غيرها من الكلمات الشعرية لتحقق منطق النص الفني وتجسد رؤياه  الشعرية .

 

وليس تصدير درويش لعمله هذا ( كزهر اللوز أو أبعد ) بمقولة التوحيدي :

   ( وأحسن الكلام ما ... قامت صورته بين نظم كأنه نثر ،ونثر كأنه نظم ...")

إلا تأكيدا على تزاوج  فنيّ بين الشعر والنثر والذي لا يكتسب شرعيته الفنية في رأيي الخاص إلا  من خلال الشعرية الرمزية التي تتفاعلُ من خلالها جميعُ مفردات النص ومكوناته تحت ضغط التجربة الشعرية مرشحة دلالته ورؤيا العامة . 

 

. حينها تلبس كل المفردات  أثوابا جديدة من الدلالات  بعد أنْ استحمتْ بماء الشعر العظيم  حيث لا يمكنُ الحكم على كلمات ما بأنها  شعرية ،و غيرها ليست شعرية ( نثرية ) . وبذلك تنكشفُ لنا نظرة جديدة في قياس شعرية المفردة تنهضُ ضد النظرة التقليدية ( الكلاسيكية )( التي  كبحت جماح شعرية الكثير من المفردات بألجمة  الجزالة  اللفظية ، والوقع الموسيقي ، و رتابة الدلالة  الخ..) فجاءت النظرة الجدية لتحر ر المفردة من تلكم القيود وتطاولها عنان الخيال وغيوم الفن والإبداع .

(11)

غريب عسقلاني - شهادة

كلما حضر.. حضر الوطن

 

-        1 –

-         

إن تكن برفقته أسبوعين كاملين, يراقب لهاث نبضك على طريقته, فيتعرف على حالاتك..

أن تراه في حالاته خارج القصيدة, فرحا مثل عصفور يعيش دهشة الطيران, ضاحكا حتى الثمالة, ومتحفظا بعفة الدخول في شرنقة الصيام, وفارسا يقظا يده على مقبض سيفه لا تأخذه المباغتة غيلة, وفنانا حتى ذروة الفيض..

إن تكن معه في مهمة الوطن

يسكنك.. يغادر.. ولا يغادرك الوطن!!

هل غادرنا الفارس محمود درويش؟

هذا سؤال الفجيعة.. وسؤال الخلود..

كان ذلك ذات وقت من ربيع العام 1997 في العاصمة الفرنسية, وبدعوة من وزارة الثقافة الفرنسية, وكنت ضمن وفد الكتاب المشاركين في فعاليات موسم ربيع الثقافة الفلسطينية الذي امتد في المدن الفرنسية على مدار ثلاثة أشهر..

كان الوفد برئاسة محمود درويش, ويضم كل من إلياس صنبر، وفدوى طوقان، وسحر خليفة، وليانا بدر, وأنطوان شماس, وعز الدين المناصرة, ورياض بيدس, وزكي العيلة وغريب عسقلاني, وكانت الساهرة على البرنامج وعلى الفعاليات, الدكتورة ليلى شهيد سفيرة فلسطين في فرنسا..

وقد اعتذر عن الحضور كل من المفكر الكبير إدوارد سعيد والشاعر سميح القاسم.

وكان مكان الإقامة والانطلاق إلى المدن الأخرى فندق لوتسيا الشهير في العاصمة الفرنسية

كنا في رحلة نحو الوطن

وكان الرهان, أن نكون ليحضر الوطن

كيف لا ونحن في معية رجل على وجهه يزهر الكرمل, كما كانت تردد فدوى طوقان كلما استبد بها الشوق إلى دفء نابلس, تحضن محمودا وتقبله.. يضحك الفتي وترتبك فدوى على خجل عروس في الثمانين.. تهمس لنفسها " من يقبل محمودا يقبل الوطن" نضحك وتأخذنا "الصهللة.."

 

-        2 –

أوبرا الباستيل

ليلة افتتاح موسم ربيع الثقافة الفلسطينية, الجمهور كبير ونوعي يضم مثقفين ومفكرين ورجال سلك دبلوماسي وكتاب عرب توافدوا من جميع المدن الفرنسية والعواصم الأوربية, وطواقم ‘علام تغطي الفعالية على جميع أركان المعمورة..

وعلى العادة الفرنسية كان الحفل شديد البساطة والبلاغة, دقيق الإعداد والتنظيم, بعيدا عن الضجيج..

في قاعة المسرح, جلسنا مع الجمهور وشاهدنا معهم لأول مرة فيلما أعدته هيئة المهرجان عن الكتاب المشاركين, تم تصويره في أماكن تواجدهم, كلف بإخراجه مخرج تونسي يقيم في العاصمة الفرنسي, بمساعدة الأديبة والمترجمة سلوى النعيمي.

أضيئت الصالة ووجدنا "نحن من كنا في الفيلم" أنفسنا فجأة بين الجمهور وسط نظرات الدهشة والإعجاب..

وكانت الكلمة لوزير الثقافة الذي رحب بالوفد وبين مدى اهتمام المثقفين والجمهور الفرنسي بالتعرف على ثقافات الشعوب, وكرم الثقافة الفلسطينية بتقليد وسام الفارس للشاعر محمود درويش لدوره في إثراء الثقافة الإنسانية باعتباره من علامات الشعر البارزة في العصر الحديث, والوسام هو أرقى وسام يعطى للشخصيات التي تلعب دورا ايجابيا على مستوى العالم..

فجأة قفزت من جانبي الشاعرة فدوى طوقان, وبرشاقة ظبية عفية.., قبلت الفارس وبللت وجهه بالدموع..

يا إلهي..

كم كبر محمود بفدوى وكم كبرنا بدموع الفرح.. وكم كانت بهجتنا بفارسنا وكم كانت فرحتنا بأمنا فدوي..

جلست فدوى إلى جانبي, كل شيء فيها ينبض, أخذتها تحت إبطي, وقبلت يدها.. حدقت في كفها فوجدت وجه إبراهيم طوقان مطبوعا علية, لعلها قرأتني.. قالت:

- أحبه يا غريب, من لا يعشق "محمود" لا يعشق فلسطين

يا إلهي..

أصابتني رجفة الاكتشاف, هل يكون التناسل على هذا البهاء, إبراهيم طوقان غنى للشهيد ونال الخلود, وفدوى ترعرعت على صدره وثكلت به مبكرا تعيش العمر أعمارا تبحث عن بعض دفء.. كم ذرفت من الدموع.. ها هي اليوم عروس الملتقى تخضل وجه فارسنا بدموع الفرح.. وكأني بها عثرت على ثوب زفافها.. أخذتها  تحت إبطي.. ولم أحاصر دمعة الفرح.. وانتقلنا إلى صالة الاستقبال حيث بوفيه الضيافة, وحفل التوقيع على كتاب يضم نماذج من كتابات أعضاء الوفد مع سيرة ذاتية مختصرة لكل كاتب..

في الصالة فوجئنا بعدد الإعلاميين والباحثين الذين أحاطوا بنا, يسألوننا التوقيع على نسخ من الكتاب, وإجراء الحوارات, وكانت معظم الأسئلة الموجة لي ولزكي العيلة ممزوجة بالدهشة عن توفر مناخات للكتابة في غزة, التي انطبعت في ذاكرة العالم بأحداث الانتفاضة الفلسطينية, وصور المواجهات الدامية مع قوات الاحتلال الصهيوني..

كان الاحتفال عظيما

وكان تقليد أرفع وسام للشاعر محمود درويش حدثا لافتاً في الأوساط الثقافة الفرنسية والعالمية, يحمل اعترافا من الأمة الفرنسية بالثقافة الفلسطينية رافدا أصيلا من روافد الثقافة الإنسانية, واعترافا حضاريا بالشعب الفلسطيني وقضاياه العادلة..

وفي الفندق كانت السعادة حالة حاضرة على وجوه الجميع, وكان أشدنا فرحا سفيرتنا ليلى شهيد, المثقفة المعروفة في الأوساط الثقافية الفرنسية, والجندي المجهول وراء إنجاح الربيع الفلسطيني.. كانت تتيه فرحا لحد الرقص.. وكان محمود محاطا بلفيف من الكتاب والصحفيين العرب والأجانب.. 

كنت أجلس إلى جانب الكاتب والناقد السوري المعروف صبحي حديدي وهو من أكثر المعجبين والمقربين من درويش.. صبحي يعيش الدهشة, عيناه لا تهبطان عن وجه محمود, يتعلق بشفتيه وكأنه يلتقط ما يتناثر من حروف.. قلت:

- كيف ترى محمودا؟ يا صبحي؟

- مظلوما لم ينل حقه من النقاد والباحثين.

- رغم كل ما كتب وقيل عنه!!

همس ولم يغادر وجه درويش:

- ما زالوا على ضفافه, لم يسبروا أغواره..     

فجأة لمع فلاش كاميرا, كانت "سيمون" المخرجة التي تعد فيلماً عن درويش وترافقه مثل ظله, ترشقنا بابتسامة وتشير نحونا بإشارة النصر.. ضحك صبحي:

- لعلها تصيدت أحدنا في حالة تلبس فسجلتها..

" سيمون" تحلم بإخراج فيلم عن محمود لم يسبقها أحد إليه, وقد عرضته بعد ذلك, وصبحي ما زال مشغولا بكتابه عن محمود لم يسبقه إليه أحد؟؟"

صحوت على شاب يقف أمامي يسربله الخجل, وعرفت منه أنه جاء من الريف الجزائري ويعد أطروحة الدكتوراه في الرواية الفلسطينية, وأن محمودا وجهه إلىَّ وإلى زكي العيلة, وعرفت من ليلى عن اهتمام محمود درويش بتجربة كتاب قطاع غزة  في ظل الاحتلال..

 

-        3-

إلى أقصى الجنوب الفرنسي, وبرفقة سلوى النعيمي أخذنا القطار الى مدينة بروفانس المدينة النوعية التي ترتبط حياتها بجامعتها العريقة, حيث يتشكل مجتمعها من الطلاب وأساتذة الجامعات ورجال الأعمال, كنت وزكي ورياض بيدس, وكان علينا أن نقدم للجمهور شهادتنا الإبداعية, وقراءة نماذج من نصوصنا المترجمة إلى الفرنسية, ثم الانضمام إلى الجمهور لمشاهدة الفنان الكبير محمد بكري الذي سيعرض مسرحية المتشائل, المأخوذة عن رائعة إميل حبيبي " الوقائع الغريبة في حياة سعيد أبي النحس المتشائل"

كان الجمهور كبيرا ومفاجئا, وكان التفاعل حميميا, وفوجئنا بأسئلة لم تخطر لنا على بال, وقدمنا أجوبة عفوية وصادقة, أدهشت الحضور, وفي العرض المسرحي تألق محمد بكري, وكان رائعا سلسا في توصيل رسائل إميل حبيبي بطريقته الخاصة..

***

قضينا نهار اليوم التالي في التعرف على المدينة, والتسوق, والتهيؤ لحضور الأمسية الشعرية للشاعر محمود درويش في الجامعة تلك الليلة..

كان الوقت عصرا.. وكنت وزكي العيلة في الطريق إلى الفندق..هتف زكي:

- محمود وليلى..

اندفعت ليلى نحونا بشوق الأخت الحنون:

- نحن في سيرتكم

كانت الابتسامة على وجه محمود فرحا صافيا, بادرنا:

- ماذا فعلتم بالناس هنا!!

قلت يسربلني الخجل:

- على قدر ما استطعنا..

- كنتم مدهشين

أخرجت ليلى الجرائد من حقيبتها, واستعرضت المقالات التي غطت لقاء الأمس, كنا مرسومين على صفحات الجرائد..

هل كان يجاملنا؟

اختلست نظرة إلى وجهه, كان في حالة ود خالصة, وهو يتابع ما تترجمه ليلى.. أدركت يومها أن الإنسان في محمود درويش أكبر بكثير من الشاعر فيه, وأخذني اليقين أن الكائن الشعري فيه يعيش مجاهدة من نوع فريد للتعبير عن الإنسان الذي يسكنه..

عبرني الوجد ووقفت في حضرته صامتا يصلني همس فدوى.. " من لا يحب محمود درويش لا يعشق الوطن"

وشعرت يومها أنني خاشع في حضرة الوطن..

***

ليلة من ليالي العمر

محمود درويش يرافقه عازف العود المشهور سمير جبران, ويقرأ نصوصه بالفرنسية فنان فرنسي مسرحي متخصص بفن الإلقاء..

القاعة غاصة بالجمهور, والحضور العربي كثيفا, تنادى من كل بقاع الجنوب الفرنسي.. 

هنا درويش

وهنا فلسطين

ودندنات العود تأخذ بأوتار القلوب, يصل المعنى على أجنحة الكلام من سيد الكلام

وكان شاعرنا سيد الإلقاء وسيد الكلام.. وكان الفرنسي رائعا خلب العرب وغير العرب, وغمرتنا الدهشة حد الإغماء عشقا ووجدا.. وسالت الدموع فيض فرح وانتصار

سمير جبران يحتضن العود بامتنان, فقد عبر به النغم إلى بر الأمان, والملقي الفرنسي يسأل وجلا إن كان وفق في توصيل القصائد؟

وكان محمود خجلا يُطيّر قبلاته للجموع, وتمتم

"بكم تحققت القصائد"

كانت ليلة من ليالي الانتصار..

 

-        5 –

لم تتح لي الفرصة للتعرف على محمود درويش خارج صفحات الكتب, ولكني في ذلك الربيع أحسست أنني أعرفه من زمن بعيد, وأن وشيجة خفية كانت تربطني به منذ وجدت على وجه الدنيا

وكنت وما زلت أتساءل هل هو الحبل السري الفلسطيني الذي يغذينا من مشيمة الأم الواحدة؟

وعدنا إلى الوطن ولم تتح لى الظروف للقائه ثانية..

ها هو قد رحل فهل يعود..

أم هي الغيبة, فهو الذي كلما حضر, حضر الوطن

 

(12)في حضرة الغياب

 

محمد الـعـنـاز

 

 

لِلْوَطَنِ جَبَهَاتٌ:

الأُولَى لِلْحَرْبِ،

الثَّانِيَةُ لِلْمَكَائِدِ،

الثَّالِثَةُ لِلْخِيَّانَةِ،

وَأَحْلاَهَا

جَبْهَةُ الْحُبِّ..

حَيْثُ يُدَاهِمُكَ

الشِّعْرُ،،

مُنْذُ رَحِيلِكَ

الْمُبَكِّرِ

مِنْ فِلِسْطِينَ..

لَمْ تَكُنْ بَارِيسُ

أَوِ الْقَاهِرَةُ

شُرُفَاتُ الْقِتَالِ..

لأَنَّ قَلْبَكَ الْمُتْخَنُ

بِزَهْرَةِ اللَّوْتَسِ

لاَ يَحْتَمِلُ

ظُلْمَةَ الْغِيَّابِ،،

أَيُّهَا الْكَائِنُ

بَيْنَ خُطَى

الاحْتِمَالِ،                                   

وَالْحُلْمِ الْمَذْبُوحِ،،

عَلَى أَرْصِفَةِ وَطَنٍ

بِلاَ وَطَنٍ..

عَلَى أُغْنِيَاتِ الْعَاشِقِينَ

الحْالِمَةِ..

بِالْعَوْدَةِ،

إِلَى قَرْيَةٍ هَادِئَةٍ،،

قَبْلَ الاحْتِلاَلِ..

لِمَاذَا يُدَاهِمُكَ الْبَيَاضُ؟

وَأنْتَ لَمْ تُضَمِّدْ بَعْدُ

جُرْحَكَ الْقَاسِي..

مَا الَّذِي يَجْعَلُ الْجَمْرَ

أَحْمَراً كَالدَّمِ؟

لِمَاذَا تَرَكْتَ الْمَعْنَى

مُعَلَّقاً

فِي جِدَارِيةٍ،

لاَ تُشْبِهُ جِدَارِيَةَ

امْرِئِ الْقَيْسِ

أَوِ الْمُتَنَبِّي؟

لِمَاذَا تَرَكْتَ الْقِطَارَ وَحِيداً

فِي مُنْتَصَفِ الرِّحْلَةِ،،

بَيْنَ هْيُوسْتَنْ

وَرَامَ الله؟

 

 

(13)

 

َلك ...

( إلى محمود درويش)

سليمان دغش

 

 

كوابل برق في منتصف نهار صيفي مشمس يفاجئنا محمود درويش في التاسع من آب ويرحل عن هذه الأرض التي طالما علّمنا أن عليها ما يستحق الحياة. ومثلما فاجأنا مع كل جديد متجدد على طول مسيرته الإبداعية الزاخرة بكل ما هو مدهش وجميل ومعراجه الأدبي والإنساني المثير مند أسرى على أوراق الزيتون وحتى تجلّيه الأخير في أثر الفراشة مختتما شوطه كلاعب النرد الأول على طاولة الشعر/الحياة يفاجئنا اليوم في غيابه الأخير منسحبا مع ظلال النخيل في غروب شمس حزينة من قصيدة الأرض/ الحياة إلى معلقة الخلود ليكون في موته التراجيدي المفجع أكثر حضورا وحياة وأقل موتا وغيابا معلنا ومؤكدا هزيمة الموت, الذي هزمته الفنون جميعها, أمام سيد الفنون وأمير البيان الأول.

فهل كان محمود درويش المزدحم بالحقيقة يخشى من ظلِّ محمود الأسطورة فشاء أخيرا أن يختفي قبل أن تخطفه الأسطورة من الحقيقة دون أن يدرك أنه باختفائه الدنيوي الظاهر قد اكتمل واكتملت به الأسطورة.

رحل محمود درويش قبل أن يكتمل حلمه المقدس الذي لازم قلبه ووجدانه وروحه وشعره مند صباح النكبة الدامي هُن إلى ليل المنفى الطويل هناك مرورا بكل المحطات المأساوية المعمدة بالدم والدمع والشهادة والتي لم تتمكن على قسوتها أن تنال من حلمه / حلمنا المقدس ذلك الحلم الذي كان محمود درويش حارسا أمينا ووفيا لناره المقدسة يطعمها روحه ورياحه وقلبه وعظامه لتبقى النار المقدسة حية فينا أبدا ويبقى الحلم نابضاً يتجدد فينا ونتجدد معه.مؤكداً أن الحلم حق مشروع وبوصلة العودة والرجوع ولا خوف على فلسطين طالما بقيت الرؤيا والحلم المقدس.

فهل كان محمود درويش مثل امرئ القيس يستشرف الموت على بعد نبضتين وأدنى من قلبه الصغير الكبير المريض بالحب والعشق حتى الشريان فاختار أخيراً أن يلعب النرد على طاولة الحياة وهو يدرك تماما أن أيامه/أيامنا كلها أمر وكلها عشق وموت وحياة فمضى منسحبا من المشهد قبل الأخير تاركاً لنا السيناريو مفتوحا على الحفرة/الهاوية العميقة ليضعنا أمام سؤال التحدي الأكبر : كيف نكمل هدا السيناريو الذي لا يزال جاهزاً وحاضراً بقوة كما صوَّره لنا وتركه لنا وتركنا فيه مع فارقٍ بسيط كبير هو أنه خارج الحفرة/الهاوية الآن يطل علينا من شرفة الأبدية الزرقاء ليقول لنا ما قاله لنا هنا آخر مرة : "من أنا لأقول لكم ما أقول؟"....

مَنْ أنا؟!...

كانت تلك كلماتُهُ الأخيرة في لعبة النرد الأخيرة هنا في قلب فلسطين الحبيبة قبل أن يغادرها على جناحَيّ الفراشة البيضاء ذات الأثر الأبدي الأبيض محملاً بأنوار الكلمة ولازورد البحر وقناديل الشعر ومناديل الغيم والدموع.

من أنا ؟ كان سؤاله الأخير الكبير قبل أن يتركنا غير منتظر رداً أو جواباً ربما لأن سؤال الأنا كان هاجسَهُ ولغزَهُ الأكبر, فهل كان محمود درويش يدرك أن أناه القلقة والمعذّبة تلك لم تكن أناه هو بقدر ما هي أنانا جميعا تقمصّها وتقمَّصتهُ وتقمَّصنا وتقمَّصناه  إلى درجة التوحد الكلي توحد الواحد فيالكل والكل في الواحد حتى بات من المستحيل الحديث عن فلسطين بمعزل عن محمود درويش أو الحديث عن محمود درويش بعيدا عن فلسطين.

    فأي مديح يليق بظلك العالي يا محمود أيها الفارس الخارج من زبد الحقيقة إلى البحر الأسطورة...

مَنْ بعدكَ يؤنسُ البيتَ ومَنْ بعدكَ يحرسُ الشعرَ ؟ وهل من حقنا أن نكتب شيئا بعدك؟ وأنت الذي كتبتنا بدمعةِ أمك/ أمنا ورسمتنا بحليبِ روحِك وحملتنا على أجنحة فراشاتك الملونة إلى المدى/ الدنيا لتفتح في كل مكان وكل بلد سفارة شعر فلسطينية مفتوحة على أفق الحياة الإنسانية الأكبر. ألم تعرف يا محمود أنَّ عصافير الجليل التي تُدرّب مناقيَرها على سنديانتك الخضراء كل صباح وتنام آخرَ الليلِ تحت ظلالها الوارفة مسحورة بالكمنجاتِ التي نفحتك فيها ستكون بعدك أكثر موتا في الوطن/ الغربة وأكثر موتا في غربة الوطن ..

 

فإلى أية غربة تأخذنا الآن يا محمود وإلى أي منفى

وهل سيكون بمقدورنا أن نحتمل المنفى أو الوطن بعيدا عنك؟ وأنت الوطن وأنت المنفى في آن

وأنت من هنا وأنت من هناك وأنت هنا وأنت هناك

فلا تعتذر أبدا عمّا فعلت

فكل ما كان هنا

وكل ما كان هناك

هو لك

هو لك

هو لك...!!!

 

 

 

 14

مشاركة الفنان العراقي ( حيدر الياسري )

31 آب, 2009 06:36:00