عَلَى هَذِهِ الأرْضِ مَا يَسَْتحِقُّ الحَيَاة " موقعُ سما أوّلُ موقع ٍ مِنْ بين كلّ المواقع ِالكرديّة , والعربيّة دعا إلى فتح ِملفّ عن الشاعر ( محمود درويش ) في ذكرى وفاتِهِ الأولى , و لم يكنْ مِنَ المستغرَبِ أنْ يستقبلَ مُعدُّ الملفّ الكثيرَ جدا من الموادّ , طلبَ أصحابُها المشاركةَ في هذا الملفّ , ولأنه ضخمٌ جدا , ارتأى محرّرُ سما :( هوزان أمين )
- متفقاً مع المُعدّ - أنْ ينشرَه على أجزاء , و بحسب ورود المُشارَكات إلى الموقع , باسم مدير مؤسسة سما كرد (الأستاذ عارف رمضان) - وكلّ العاملين في المؤسسة - نقدّمُ الشكرَ لكلّ الأدباءِ والفنانين الذينَ شاركوا في هذا الملفّ , متمنيّاً قراءة مُمتعة لكلِّ قرّاء , ومتصفحي الموقع , و الشكرُ موصولٌ لكلّ المواقع العربية , والكردية التي نشرتْ إعلانَ الملف.
و مشاركاتُ هذا الجزء لكلٍّ مِنْ : ( حنان درقاوي - كاظم شيخي - حياة الرايس - نارين عمر - فاطمة الحويدر - كريمة شامي - نجاة الزباير - آمال عوّاد رضوان - سوسن العريقي - باسم سليمان )
ومن التنويه لقرّاء العربيّة : تمّتْ ترجمة الكثير من قصائد محمود درويش إلى اللغة الكردية من قبل بعض شعراء الأكراد .
المُعدّ : عبداللطيف الحسيني .
============
الرجلُ الذي كان يعشقُ النساء (1)
حنان درقاوي:
ذات قيلولة بمنتزه حسان إبان مهرجان الرباط 2001 كنتُ بلباس أبيض استعدادا لقراءات مشتركة مع الشاعر الفرنسي ( مارك دولوز)، كنتُ أحتسي قهوتي حين جلس إلى جانبي رجلٌ يشبه (بيل كيتس ) واستغربتُ ,( فبيل كيتس) لم يُستدعَ للمهرجان، التفَّ الناسُ حوله , وفهمتُ غبائي , كان محمود درويش. انتظرتُ لحظة انصراف الجميع وقلت له
-مرحبا
ردَّ
-شكرا
وظلّ ينظرُ إليّ , وسألني
ـمن أنتِ؟
ـ انأ حنان , وأحكي حكايات .
ولم نعاود الكلام بعدها , فقط تذكرتُ أشعاره حين كنتُ اقرأُها في الثانوي، تذكرتُ السنوات التي كان المغاربة فيها ممنوعين من التضامن مع الفلسطينيين , وقال لنا الحسن الثاني بالحرف"من ذكر اسم الفلسطينيين سأطلي بابه بالذي لايذكر" وكان ذلك لأنّ ياسر عرفات جلس إلى جانب البوليزاريو في مؤتمر عالمي لحركات التحرر , , رغم الحظر من التضامن كنا نجد كتب درويش في الأسواق أو نتبادلها مع الأصدقاء لهذا حفظتُ شعره مبكرا , وأهمّ قصيدة له على الإطلاق في نظري هي ( أمي ) وما كتبها في حصار بيروت، رائحة القهوة في الحصار كانت أقوى من رائحة البارود، خطاب الديكتاتور العربي كانتْ رؤياه , فنفس الحسن الثاني قال بعد القصيدة أنه مستعدٌ أنْ يعيش مع الثلث الصالح من المغاربة وبوتقليقة الجزائري قال بالحرف" يكفيني كمشة نحل ولاشواري ذباب" وكان يقصد شعبه
وحين قال درويش
؛( اضربْ عدوك بي
فأنتَ الآن حرٌّ )
كان يرى انتحاريو حماس وهم بالمناسبة ليسوا شهداء، الشهداء هم الأطفال الذين يقدمون قرابين وقالها درويش في الانتفاضة الثانية
"اقترب أيها القربان"
قدرُ درويش كان أجملَ من قدر عرفات رغم الموت المستعجل ظلّ مخلصا لنفسه، لرؤيا السلام , والجميعُ يعرف أنّ عرفات كان ناطقا فقط بكلام درويش منذ خطبة الأمم المتحدة التي ارتكب فيها خطأ حمل البندقية مع عرش الزيتون , فالعلاقات الملتبسة للشريف الحسيني وهو عمُّ عرفات مع هتلر لم تتضح بعد تاريخيا،
درويش بالنسبة لي هو عاشق النساء وليس الأرض فقط، هو رجل للحياة رغم الموت المستعجل
في الظهيرة مع درويش كان اللقاءُ صامتا فقد سبقت قراءاتي ندوة مخبولة عنوانها"هل نعيش زمن الرواية أم زمن الشعر" وهو سؤالٌ مستحيلٌ , وكان واضعوه مسرنمين , المهم كان علي أنْ أتابعها من أجل الجريدة التي أعمل بها ,
كان هناك مكانٌ قرب درويش ’ وأشار إلي أن أجلس , وأشحت لأني إذا اقتربت سأعشقه , وهو لكل نساء العالم , لهذا جلستُ في آخر الصفوف وحرس درويش مسجلتي , وكلما انتهت التفتَ إلي لأقلبها , ولأنّ الندوة كانتْ طويلة ومملة فقد غيرت الكاسيط مرتين والتفتَ إليّ درويش أربع مرات،
خلال المهرجان أصرّ عليّ شعراء عالميون أن ألتقي درويش فقلتُ لهم ؛
ليس لدي ما أقوله له، شعره أحفظه ولن أكتب عنه أحسن من صبحي ولن أترجم له أحسن من الياس صنبار ودواوينه كلها لدي , ولا أحبُّ التوقيعات من الكُتاب
جئتُ إلى فرنسا بضاحية باريس وقال لي مارك دولوز
ـ يجبُ أنْ تري درويش
وكنتُ أريد , لكن زوجي كان لا يريد لقائي بالكتاب , فأضعتُ فرصة لقاء جميل لست نادمة عليها , مادمتُ الآن أغني درويش في الملتقيات , ومادمتُ عرفتُ رفائيل حبيب العمر الباقي بكل كتابات درويش , وهو من جعلني أشاهد فيلم "الرجل الذي يعشق النساء" وفيه يشبه درويش شارل دينيه , كنتُ أعشقُ - عذريا - شارل دينيه .
===================
(2) بعد رحيل محمود درويش
( كاظم شيخي: أبو نوح )
سيكتب الكثيرون عن محمود درويش مثل ما قيل فيه بعد الرحيل من المدائح قيلتْ في غيره , وربما في أكثر من مناسبة رفض هذا الخطاب المجاني , ويأتي اهتمامنا به كرديا من منطلق التشابه في مواجهة التحديات وخاصة الوجه الرسمي لليسارالعربي و الكردي الذين تربوا على حب الحرية وكره الظلم حتى الموت ورفض الاستغلال حتى الثورة, والشاعر محمود درويش أبى السير في مواكب النفاق التي كانت تخص الفكر والعمل والحركة كان لايطيع إلا الأصوات المنبعثة من أعماقه , ولم يستسلم لمَنْ كان يخاصمه , حارب بالكلمة مخاطبا وجدان الانسانيه بالحجة والعقل والحوار مرحبا بالخطاب الآخر العقلاني .
ما دمنا في حضرة رحيل الشاعر الكبير لنحضر بعضا من إشعاره التي أجادها مارسيل خليفة :( أحن إلى خبزأمي وقهوة أمي ولمسة أمي وتكبر فيّ الطفولةُ) .
ارتبط اسمه بشعر الثورة والوطن , ويعتبر أحد أبرز مَن ساهم بتطوير الشعر العربي الحديث وإدخال الرموز فيه ومزج الحب بالوطن قال في غزه : تحيط خاصرتها بالألغام وتنفجر, لا هو موت ولا هو انتحار .
إعلان جدارتها بالحياة منذ أربع سنوات ولحم غزه يتطاير شظايا لا هو سحر ولا هوأُعجوبة,إنه سلاح غزه ؟ في الوقت الذي كان محمود درويش تمنى من الحياة والوطن غير انه لم يحقق أبسط أمنياته قطعت ارض بمساحة جسده الطاهر في تراب الجليل وربما سيحوله الفلسطينيون كما قال الكاتب محمد شقير(إلى رمز جديد) وكان مدهشا حقا حسب ما ورد في الأنباء بعد رحيله أنّ إسرائيل طلبت من أسرة الشاعر إطلاق اسمه على جائزة أدبيه إسرائيليه , طبعا تمّ رفض الطلب من قبل ذويه ولا نعلم ماذا فعلت المؤسسات الرسمية العربية منذ أنْ دُفِنَ الشاعر الكبير في-9 أب 2008 لاحتواء هذا الرمز وعلى سبيل الذكر في المهرجان الأدبي العالمي في العاصمة الألمانية لإحياء ذكر درويش واعتبار الخامس من أكتوبر إحياء لذكرى الشاعر الكبير, هل فكرت الفضائيات العربية- ولو لدقائق - تكريمه لما قدمه للثقافتين العالمية عامة والعربية خاصة , كأني أسمع صرخته على النقاد(أنقذوني من هذا النقد القاسي) ولازال الخلاف جاريا في بعض الدول العربية كطلب منظمة التحرير وضع يدها على بيت درويش في الأردن وتحويله إلى متحف , علما أنه أوصى بألا ينتقل كتابٌ واحدٌ من مكتبه رسميا إلا بمساعدة أصدقائه .
منذ زمن وأنا من الملاحقين والعاشقين لنتاج محمود درويش ,أستغرب من بعض الأقلام التي تناولت المصاب الجلل على أنه مصاب كل الفلسطينيين والعرب, لا أظن أن هذا المصاب أقل تأثيرا على الكرد, والأدباء خاصة - على ما أعلم - بدأتْ أقلامهم في التعبير عن مشاعرهم قبل الكل , والمواقع الالكترونية الكردية شاهدة على كلامي , وإذا لم أكن مبالغا فإن بعض أصدقائي من الكتاب والشعراء تبادلوا التعازي فيما بينهم ,
ولهذا فأشعاره تحرر معصمي من القيود .
==================
(3) مهرجان قرطاج يستضيف محمود درويش . .. و
" علّيسة " تشيّعه برماد جسدها
حياة الرايس
كان ليل ضاحية قرطاج ساكنا ينام على خيال خصب وسط الغابات المخملية الداكنة، حتى اشتعلت أضواء الكاتدرائية القرطاجنية (فضاء الأكروبوليوم) المنتصبة على قمّة مرتفعاته، وانتشرت أنوارها مرافقة الصوت الجهوري للشاعر محمود درويش ينبعث من بين أنوارها، ويشع معها على الليل، يوقظ صمته، ويدعوه إلى احتفاء خاص.
كانت الكنيسة تنفرد بإضاءة هذا الليل، وكان محمود درويش ينفرد بصوته أمام آلاف الأصوات الشعرية المتناسخة يوميا عن بعضها البعض في آلة «الإبداع» المعطوبة المجروحة بفعل القول المكرور المشوّه حدّ الاهتراء، حدّ غياب الملامح.
كانت الكنيسة شامخة شاهدة على أسطورة قرطاج: قرطاج الرومنطيقية التي عاشت مأساة «صلامبو»، والتي شهدت غراميات الملكة «ديدون» و«أيني». قرطاج القاسية مدينة الإله «مولوك» والمتوقد حنبعل بطل الحروب البونيقية، قرطاج المسيحية التي مسحتها روما من الأرض ثم بعثت من جديد
قرطاج احتضنت مساء ( الخميس11 اغسطس 2005 ) شاعر المقاومة محمود درويش تحنو عليه هامسة:
«تعال نتوسد جراحنا ونتجاوزها لنثأر لشعب أسطوري النضال يُقتل كل يوم ويبعث كل يوم من جديد كطائر الفينيق ليرد لأرض الأنبياء والقديسين طهارتها».
أسطورية الجراح كانت «علّيسة»
تضع رأس الشاعر على ركبتها
قبل أن تضرم النار في جسدها
وتحكي له قصصا طويلة....
تبتدئ من صور إلى شواطئ المتوسط
وتحكي له قصة مدينة سورت بحجم جلد ثور
. كانت تهدهده لينام، لكن الشاعر لا يستطيع أن ينام ... يؤرقه حبها... فيخبرها كيف بكى بين النساء...
..." تونس أرجعتني سالما من حبها
فبكيت بين نسائها في المسرح
في لغتي دوار البحر
في لغتي رحيل غامض من صور لا قرطاج تكبحه ولا ريح البرابرة الجنوبيّين
جئت على وتيرة نورس ونصبت خيمتي الجديدة فوق منحدر سماوي.
سأكتب ها هنا فصلا جديدا في مديح البحر:
أسطورية لغتي وقلبي موجة زرقاء تخدش صخرة...
أقول لها سأمكث عند تونس بين منزلتين
لا بيتي هنا بيتي ولا منفاي كالمنفى
وها أنذا أودعها ...يجرحني التأمل في الطريق اللولبي إلى ضواحي الأندلس. "
تودعه علّيسة من فوق أعلى قمة في مدينتها بحفنة من رماد جسدها تذروها وراءه مع الريح ... فيشتعل الزعتر والإكليل في فلسطين.
يشمّ الشاعر رائحة كبرياء جسدها ... إنها تشبه رائحة كبرياء تراب فلسطين...
في الداخل كانت الكنيسة مليئة بالحضور الذي فاض إلى ردهاتها الخارجية، طلبا لنسائم الصيف الشحيحة هذه الليالي في تونس. كان أغلب الجمهور من المثقفين والكتاب والأدباء والشعراء والإعلاميين وبعض الطلبة، ولا أظن أن السهرة قد مست نبض الشارع ووصلته. كان الجمهور نخبويا، وكثير من الشباب في تونس لا يعرفون محمود درويش شعريا وإبداعيا، إلاّ كونه اسما متداولا معروفا بالسماع، زد على ذلك أن المكان (فضاء الأكروبوليوم) بعيد عن العاصمة، متوغل في غابة بعيدة عن العمران، ما عدا فيلات ارستقراطية قرطاج التي تحيط به...
صاحبت محمود درويش في هذه السهرة العازفتان ياسمين عزيز وزهرة مداني في مراوحة بين الشعر والموسيقى، وقد قدمتا سمفونيات كلاسيكية، ممتعة أنشد بينها محمود درويش عدّة قصائد منها «شكرا لتونس» و«الكمنجات تبكي» و«أحن إلى خبز أمي» و«خطوة الهندي الأحمر» و«من تعاليم حورية»
أنشد :
أمي تعد أصابعي العشرين عن بعد
تمشطني بخصلة شعرها الذهبي تبحث في ثيابي الداخلية عن نساء أجنبيات وترفو جوربي المقطوع
لم أكبر على يدها كما شئنا
أنا وهي .. افترقنا عند منحدر الرخام ...
وأنشأ المنفى لنا لغتين دارجة... ليفهمها الحمام
ويحفظ الذكرى وفصحى... كي أفسر للظلال ظلالها.
======================
(4) محمود درويش
عاشَ إنساناً ورحلَ إنساناً
نارين عمر .
لحياةُ لذيذةٌ وجديرةٌ بأن تُعاش على الرّغم من المرارة التي ترادفُ الحلاوة, والتّعاسة التي تنافسُ السّعادة, والكره الذي يباغتُ الحبّ, وكلّ هذه الأضدادِ والمتناقضات هي ما تدفعُ البشر لكي يسعوا إلى امتلاكِ زمامِ كلّ مفردةٍ ونقيضتها, ليتمكّنوا من تحقيقِ ما يُسمّى التّوازن الكونيّ أو البشريّ. الأكثرُ لذة في الحياةِ أن يعيشَ أحدنا ساعياً إلى تحقيقِ أهدافٍ ومطامحَ ترادفُ خطوات حياته ومسار تواصله خطوة, خطوة.
محمود درويش, الإنسان, الشّاعر, المناضل, يكفيه فخراً أنّه عاشَ لأجل أن يكونَ ذلك الإنسانُ السّاعي إلى ما هو أنبل وأفضل من الأهدافِ والرّغبات.
الحياةُ بالنّسبةِ إليه كانت لذيذة بكلّ أضدادها, بكلّ أندادها, وبكلّ مترادفاتها, لأنّه كان يسعى إلى أن يعيشَ في عالمٍ رسمه له خيالُ فكره وروحه وهو جنينٌ في رحمِ أمّه, عالمٍ ينشده كلّ منّا –نحنُ البشر- ولكن بطرقٍ مختلفةٍ وأساليبَ متباينة.
يكمنُ إبداعه في طريقةِ تعامله مع الّلفظِ والمعنى معاً, من خلال مناشدته للصّعبِ وجعله يبتسمُ مع نقيضه السّهل, وملامسته للغموض وجعله يسبحُ في نهرِ الشّفافيةِ والوضوح, ومعانقته للتّكبّر والغرور وجعلهما رديفين للبساطةِ والتّواضع.
محمود درويش, عاشَ إنساناً, وشاعراً, وعاشَ مبدعاً حقيقيّاً لأنغامٍ ولدت مع ولادته, ولكنّها لم ترحل مع جسده, ما تزالُ تعزفُ على أوتارِ روحه, وستظلّ, وتَحقّقَ له كلّ ذلك لأنّه استطاع أن ينفثَ في حديقة الإنسانيّة المزهرة أبداً شتلة حبّ وصفاءٍ كافية لخلق إنسانٍ رديفٍ للإنسانِ الذي ولدَ معه, ولأنّه كان ينبضُ بهذه السّماتِ والميّزات, فقد مُنِحَ ملكة الدّراية والمعرفةِ بحياته ومصيره ونهايته لذلك واصلَ الّليل بالنّهار والنّهار بالّليل لينهي مهمّته الإنسانية والإبداعية خلال العمر المحدّد الذي خُصّصَ له التّحرّك ضمن نطاقه قبل أن ينهيه القدرُ جسداً وينثره روحاً في فضاءِ مَنْ يبحثون عن عالمهم المفترض الذي يولد من رحم خيالهم السّارح في نبضاتِ أحلام يقظتهم.
===============================
(5) شاعر (البُسطاء )
كريمة شامي
محمود درويش ...هل أقول انه شاعر الدراويش ...أم أقول كما يقول هو نفسه في قصيدته المسماة (شاعر البُسطاء)
(قصائدنا بلا لون ..بلا طعم ..بلا صوت
إذا لم تحمل الصباح من بيت إلى بيت
وإن لم يفهم ((البُسطاء))معانيها
فأولى أن نذريها
ونخلد نحن إلى الصمت )
أم أقول إنه كان نهرا جاريا مازال , ولم ينضب شريانه الشعري المتدفق بالحماسة والثورة التي تحاكي خبايا النفس والتي لا تريد لها الاستكانة والخضوع للمحتل .
فمحمود درويش لم يكن شاعرا مقاوما وحسب ..ولم يحسب على القضية الفلسطينية وإن كان رمزها .
بل إنه أحدُ أعمدة الشعر العربي الحديث وعمود كبير ووطيد من بنيانه الذي شيد في العراق من قبل الشاعرة الكبيرة نازك الملائكة والشاعر الفذ بدر شاكر السياب
ذاك كان جيلا ثائرا على التقاليد الشعرية العربية التقليدية والتي أتت أكُلها في ستينات القرن الماضي
فحين أصدر مجموعته الكاملة بطبعتها السادسة في عام 1987 ..قال (انه لا يخجل من طفولته الشعرية .أبدا )في إشارة إلى بعض قصائده الأولى (فالطفولة شيء والمراهقة شيء أخر )
لكن إيمانه بالحرف كان كبيرا وخلاقا ومؤثرا لأن كل حرف كتب في قصائده حي قصائد الحب ..كان رصاصة في قلب العدو
درويش كان وحده ثورة بحد ذاتها وقد كان له ثقل يتدلى بعمق في ميزان المقاومة الفلسطينية
(آمنت بالحرف أما ميتا عدما
لو ناصبا لعدوي حبل مشنقة
آمنت بالحرف نارا لا يضير أذا
كنت الرماد أنا أو كان طاغيتي )
لكن تلك الثورة كانت سهلا ممتنعا وربوعا شفيفة بالنقاء والأمل (أنا الأمل السهل والرحب
قالت لي الأرض والعشب
مثل نسمة الفجر )
فصراخ الثورة في حلقه كان مكبوتا في صدره لكنه كالسجن الذي لم كل رفات ذلك العدو المبين
(وقد فتشوا صدره فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتشوا قلبه فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتشوا حزنه فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتشوا سجنه فلم يجدوا غير هم في القيود )
الشاعر كان واضحا في انتمائه إلى الأرض وفي تشبثه بالحياة رغم انه عاش في المنافي وضاق طعم الغربة في البحث عن تلك الأرض الأم (أنا الأرض في صحوها لن تمروا
أنا الأرض أيها العابرون في صحوها
لن تمروا
لن تمروا
لن تمروا
وهو الزيتون في اخضراره كونه لباس الفداء والمقاومة (انك الأخضر لا يشبهك الزيتون
لا يمشي أليك الظل
لا تتسع الأرض لرايات صباحك
فلتحدد أيها الأخضر موتي وانفجاري )
كان الحب عنده طريق للشهادة مرسوم بأظافر الشعر (إن الدروب إلى شهداء المدينة مقفرة من يديك
وما كان حبا وما كان يوما وما كنت وما كنت
إني أحدد يوم وصل لأحبك وأمضي )
فالأدب حين يكون أبا للحياة وأما لها يكن الشعر أكبر أبنائها
بل ابنها البار الذي عليه تقع الأثقال والأحمال
وكذا درويش كان ابنا بارا للشعر كان حرفه حزمة نار في فوهة البندقية التي خلقت للنبض كمالا
==================
(6) محمود درويش
فاطمة الحويدر
كلما انطفأ نجمٌ ذاتيُ إضاءة في سماء وجودنا المكدود، زادت رقعة الظلام حولنا وتربعت خسارةٌ كئيبة الإطلالة بتمددٍ كبير هوَ يقصي مكامِنَ النور في عالمنا، محاصراً الجمال في مخابئهْ مصلوباً على أبواب الأبجدية، مفسحاً الفقدُ الجلل لحلكةٍ قبيحة ُملامح عقيمة ُتواجد المجال في أن تمُدَّ قدميها الحارقتين بتوسعٍ مستريح حيثُ مجاهل العتمة، محتلاً بذلك الديجور المكان الشاغر انتصاراً بليد، متسلطناً خسراناً فادحاً لا يَتوانى، حائزاً (شحوب أليم) يتركهُ رحيلُ شاعرٍ كبير كمحمود درويش على المساحة الأوسع لمسافات تيهٍ وضياع هما الماثلانِ كنهايةٍ قاهِرة البأس عن هبائِها لا تحيد أوهيَ ُتحَدُ كسلطةٍ نافِذةٍ أو تهادَنُ كتمكن، فأيُ فقدٍ لنخبةٍ بشريةٍ مشرقة إنما هوَ انطفاءٌ لشعلةٍ سراجها البهاء وسنا فتنتها السحر وقبسُ فتيلها إكسيراً أزليُ عطاء، يسعدُ أنفسنا ويبهجُ فيها الشعور، وما نضوبُ غديرهُ الرقراق إلا انكفاءً لفيءٍ حسين، أريجهُ الرطيب ينعشُ جفاف أرواحٍ يابسة متهشمة العنفوان، عانقت أنهارهُ ثنايا السنون بين آبادها مصيراً فريد من نوعه حيثُ لا عودة لهديرِ موجهْ ولا شلالَ طيفٍ لهُ يعودُ يُرى فيبقى بلا حدود أو نهاية أو حتى انتهاء، فبانحسارِ ظلٍ ظليل لوجودٍ جميل سقى نداهُ خشونة عيشٍ بائس ولطفت برودة زلاله صحراء حياةٍ قاحِلة متلظية تدثُرَ عذاباتٍ ومعاناة، غمرَ حقولها الجرداء تدفقَ فيضٍ نبعهُ يرويها فيثريها اكتِنافاً لشبق هذا التواجد، إنما يتبدى تألقُ سحابهُ المدرار رحمةًً عُليا أهدتها السماء غيثاً دافِئاً لدنيا جليدية قارصة الإخافة لا يمكنُ للمعرفة حَلُ مفاهيمها أو تخطي في نقيضها أسرارَ اليقين.. فقط التعايشُ لقسوتها يكونُ تحملاً وصبر، ناهِباً الأبدُ الغابر زهواً ماثِلاً على بساط لغة وفن بلاغة لنوعيةٍ مميزة ومتميزة، راكنها ( اندراسَ فناء ) والتي لا تقدرُ بقيمةٍ أو تعويض، ولا يقدرُ لنا أبداً وإن أردنا ذلك حتى النخاع أن نستعيدَ روعة مثولٍ خلاب لحضورٍ باذخ غادَرَ رحيلهُ الشعري جزالة جيد الشعر للأبد، بأن ننتزع حبات عقدهِ المبروم خضاراً غض من صفرةِ فراغٍ مدلهم، ولا يمكنُ إدراكُ كُنه التعويض أو أن تسبرَ أغواره فتستجلى مكنوناته ومن ثم الإتيان ببديلٍ مطابق يوقظُ الوهج الشفيف من سباتِ رمادهْ معمِّدهُ لهيبَ جمر، فقوةُ انبعاثه كطائر فينيقي أزليُ تكوُّن.. كنزٌ آخر حي مكللُ ديمومة على شواطئ الخلود، صفاءُ بياضهْ نبراساً منيراً لردهات ظلمةٍ مجهولة المصير فينا تناهى نائيةًً مكاناً وزمان، سابحةً عوالمها أطلالَ ذكرى راحلة نظراً واستماعاً وتخيلاً يكونُ إدمانها لعطرهْ استلاباً لثنايا الروح باندماج وتصوراً متنسكاً في محراب القصيد روضةَ تعبد، ليضافَ بذلك نضوبٌ أخاذ لثرواتٍ إنسانية مبدعة والتي مجدداً أضافت للفقد البليد من لآلئها وداناتها بريقاً آخر ثمين خطفهُ وثنُ المنون المتربصةِ حقبُ أزمانهِ العادية المستعدية قنصاً سحيقُ اندثار، أوقفَ جوقة ألحانهِ عنوة، منحسرةً فوق جبين السحر لوجودهْ صلافةُ رمالٍ بلهاء محتلةً فيهِ جواهر القريحة دون رحمة، وملتحفاً في فكرهِ اللمعان بلادة ترابٍ لا يعي كُنهَ هذا الدفين العظيم، لكن ما يعزينا عن حجم الفقدان هو الأثرُ الخلاب لشهابٍ ثاقب أنارَ واستنار، نهرٌ معين يظلُ يتدفقُِ انهماراً عذباً ( هبة عطاءٍ ) دائمة السقاية والبذل، تروي ظمأ أرواحٍ متعطشةٍ دوماً لمعاني الكمال، باقياً نبعُ غديره السلسبيل نشوة ارتواء حلوة الرضاب.. تنشرُ نسائمَ روحٍ رقيقةٍ شاعرة، حالمة الخيال تقطرُ عبيراً حاكى طيبُ عبقهْ شذى الزهور، تبقى تعزفُ ذبذبات روحٍ صادحة الأنغام بلبلاً غرَّد أروع الألحان ( طربهُ بقوةٍ يشجينا ) كعبور رقةٍ وادعة السكينة في هدوءٍ قد تجلَّى فضاءً ناعماً يدغدغُ همومنا ليلغي عن كواهلها ثقل عناءٍ منحدرٍِ متاهات فوضى متداخلة الاتصال، وكدح بقاءٍ مضني لهاثهًُ لا يهدأ أبداً جرياً محمومٌ سعيرهْ وراءَ سبل عيشٍ متعبة الضجيج لحركةٍ دءوبة.. دورتها الحياتية عارمة السرعة، كما ونحنُ في قاع ألمنا المديد هذا نبقى أبداً نعانق سيمفونية موسيقاهْ الرخيمة ارتقاءً جذِلُ الرؤى، يسبحُ بنا ظللاً وارفة الفيء نعتلي فيها قممَ الجذب سعادةً قصوى لا يستشرفُ فيها المدى ولا يقاسُ فحوى نشواها،
انسيابية ُالانطلاق لها تتبلورُ إمساكاً رائعاً بتلابيب ملحمةٍ هيَ تبقى تذوبنا ثمالةً عندما نتذوقها انصهار.. بهجة ٌمزدانة ثراءً ممزوجةً بتطلع مريد في أرواحنا نحو نقاءِ روحي عفيف ينعكسُ غنى حضور فينا، تعزفُ لنا حناياهْ قيثارة جمال ٍبديع، ترصدها لنا روحهْ سماءً عالية نجوبها فضاءً آخر واسع المدى، تضيئها شمسُ إبداعاته الأدبية الزاخِرةِ بالجِنان، تغزلها ربيع بقاءٍ بهيج يحينا (مواصلةً) في دنيا كآبةٍ موحشة، فنرشفُ لذة المنتهى رحيق شهدٍ ينعشنا نعيمهْ حد ارتواءٍ لذيذ، مكتملةً ملائكية الوجود فينا لنصبح أكثر شفافيةً وطهر، مرتفعةً حواسنا خلاصاً صافياً مزدانَ حيويةٍ وصِبا، يُرهفُ برقةٍ دواخلنا سمواً فارتقاء، وبعمق إبداع فريد يصلبُ فيها غفوة الضمائرِ صحوة وغلظة النفوس تكبرُ تحرراً شبق الانفلات من طوْق موتٍ يومي لتواجدٍ هوَ يظلُ يصغرُ تحلُلاً فانحدار، ينطلِقُ متنصلاً من تداعيات خصوصيات جسدٍ يبقى مكبِلاً إياهْ عناءً ينضوي أسيراً لحرية انعتاق، متوحداً مرافئ مريحة بسخاء.. فلا تعودُ مادية الأجساد ُترى أو حتى تعيق، فهكذا دوماً وأبداً وبجزالة يُستشفُ عمقُ الاتصال، فهوية الشاعرِ والأديب إشعاعٌ آخر ذو لونٍ مختلف مغاير، دائماً يكملُ فيهِ تمازجَ ألوانٍ سحرها المفقود كقوس قزح لا يمكنُ مساواة حسنه تماثلاً وتشابه أو استبدال فجرهْ بإشراقٍ آخر مماثل أبداً فكلٌ لهُ لحنهُ الخاص المتفرد بنفسه وأصداء نغمهِ البديع ولون الهوية..لتبقى الحاجة دائماً إلى التزود من أريج هذا الرحيق الشهد الذي يوازي شرب كأس ماءٍ بارد بعد لظى حارقٍ للسريرة، كجدوى اندفاع آسر لمواصلة استمراريةٍ عاجزة القدرات ضعيفة ومنهكة بكل قيودها الثقيلة، للتمكن من مواكبة هدف عيشٍ هوَ للنفس البشرية كاوي حدَّ الإقصاء دون رحمة أو تواني لأنهُ كلما قلّت مساحة العذوبة زاد الظمأ وانحسرَ البهاء، أبداً تغسلُ فيهم بركتهُ الرحيمة صهد قيظٍ لاهب اللظى، موقِظُاً نبضُهْ سعادةً واسعة تحوي العروق، يلامسُ إكسيرها الخلاَّق شغاف قلوبٍ بصيرتها خاوية، ليحتسيها العطش الروحي ذروة انتشاءٍ قصوى تذيبُ قوالب الملح المترسبِ حولنا وتفتحُ لجة غموضٍ مبهم (جنات كلِم ٍوسِحرَ بيان) نعيماً سافر الإضاءة وجارف الانتشاء..مكملاً خفايا إنسانيتنا، فتصُقلُ أرواحنا نجوماً أخاذة اللمعان انعكاساً نقي لترشيح وغربلة ومن ثم تعادُ خلاقاً وليد اللحظة خالص الخلق صافي الجوهر طاهر النبض من جديد وذلك كلما غادرَنا الانبهار وهجرتنا الدهشة؛ حضورهُ الشعري موجةً زرقاء الجمال لا تنضبُ فيها الزرقةُ أو يضمحلُ الأوار أو يتوارى أبعاد عمق، بل تجددُ ثريا فاتنة غموض خاطفةً ًالتتويج في كل مرة وعند كل نظرة وبكل اتصال، تأججُ هالة نورٍ مشع لا تتناهى جاذبية ولا يتلاشى كيان، يظلُ يقطرُ فيها السيل شفافيةً موجةٍ غزيرة الفيض في جوقة بحرٍ كبير دون شحذ استجداء وتقصي لجدوى مواكبة شظف هذا الوجود المرير، رحيلُ مدهِ الأخير جزراً آخر يكبرُ مخطوف العودة في عالمٍ كاسرُ الإطلالة، يغادرُ ارتوائهُ الفياض عطش أرواحٍ هيَ مليئة فجوات غربة متحيرة النضوب والتشكل تظلُ تهاجرُ عودة !؟ مزدادةً مساحة التصحر فيها والتوحد دون نبع الوصول، ولكن وبالتحليق معهُ في أجواء عبورهِ المفرود جناحاً منبسطاً أفقاً أسيل، محلقاً خلاصاً نوراني فاتناً مفتِناً للألباب والقلوب، تعودُ الحياة من جديد تسري كينونةً ًأبديـة بجمال.
==================
(7) مِنْ كَفِّهِ سَكِرَتْ قَصَائِدِي
إلى الشاعر محمود درويش في ذكرى ولادته الثانية
وما الموت إلا سارق دق شخصه
يصول بلا كف ويسعى بلا رجل ( المتنبي)
نجاة الزباير
ما يشبه التقديم :
نورس في حقيبة زرقاء
انشغل الشاعر الكبير محمود درويش بكل هواجسه بالحداثة، و ارتبط اسمه بالمنجز الحضاري للشعب الفلسطيني، فكان شاعر الأرض وشاعر الحياة في كل تجلياتها ونزوعها الدائم نحو تكريس الوجود الإنساني الفاعل و الاحتفاء به.
وقفت عند خطابه الذي ألقاه عند تكريمه بمهرجان الرباط من طرف اتحاد كتاب المغرب عام 2000 حين قال : "هل لي أن أقول إن هذا التكريم يُحرجني، لا لأنني لا أستحقه فقط، بل لأنني ما زلت حيا أيضا، فليس من نصيب أحيائنا أن يواجهوا غير اللعنة، و إن بلغوا قدرا من الحب، فإنه لا يدوم إلا بدوام التجربة الشعرية في اتجاهات لا حدود لها، وفي مناخات ذائقة متغيرة، ولا ضمان لها نسبيا إلا بتطوير العلاقة المركبة بين الشاعر والقارئ"
بهذا الوفاء الكبير للشعر ظل محمود درويش يراهن على الجمال والارتقاء بالقضايا، باحثا في قصيدته عن الألم والفرح والموت والحياة، وكل هذا وغيره هو الذي حفر اسمه بين أخاديد التاريخ الإنساني
يقول:
من أنا لأقول لكم
ما أقول لكم؟
كان يمكن ألا أكون أنا من أنا
كان يمكن ألا أكون هنا .. (من قصيدة لاعب نرد)
فبين أمواج النفي المغروس في خِصْرِ أزمنته، تشظت عوالمه وهي تغتسل في نهر الترحال المستمر، فتسلقت كلماته علياء التاريخ المعجون بالدم والتراب. فكان نورسا في حقيبة زرقاء...
نقرأ في شعره أنينا ولوعة تغازل طفولة جُرحت سماؤها منذ رحيله عن قريته ببروة في فلسطين حتى رحيله الأخير.فقد كان لاجئا في فلسطين ولاجئا خارج الوطن.
هويته مضفورة بشعر النبوة المسكون بهوس الأرض، راصدا في شعره توحده بالأسى المزروع في زواياها.
يقول:
أنا الأرض..
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي ..!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرضُ في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض.
فهل كان محمود درويش وطنا في قصيدة اتكأ على منسأتها عمره كله ؟، فكانت قصائده تشغل الناس كما كانت قصائد المتنبي تفعل؟
وهل تراه أسطورة للزمن الشعري الحديث، أم بالتحديد أسطورة إنسانية استطاعت أن تسيج وجودها بهذا الكم الهائل من الحب من شعب ممدد فوق سنديان الظلم؟
امتلاك محمود درويش لتقنيات شعرية مميزة أخرجته من شرك الخطاب السياسي، فشعره ليس سياسيا و إن بدا كذلك؛ بل هو شعر إنساني، استضاء بجماله كل الشعراء، يتبعه كمان الأسئلة المشرعة على حافة كل القيم المنفتحة على الحلم والجمال، و كل ما هو جوهري في الوجود، هذه القيم الغير المنذورة للتحول خلقت اختلافه وفرديته .
وها هو محمود درويش بيننا دائما، فهو حاضر رغم الغياب.....
جَلَسْتُ فِي شَعَثِ اُللَّيْلِ
بِي لَغْوٌ يَشُدُّنِي نَحْوَ اُلْهَبَاءْ
تَنْزِفُ اُلْحُرُوفُ فِي صَمْتِي
تَخْلَعُ رِدَاءَهَـا
ـ "سَقَطَ اُلْقِنَاعُ"*
قَالَتِ اُلْقَصِيدَةُ تَجُرُّ صَدَفَ اُلْمَاءْ.
1
كَمْ قُلْتُ : ـ " هُوَ مُتَنَبِّي اُلْأَرْضِ
وَ أُرْفْيُوسُ اُلقَصِيدِ
تَسَلَّقَ حَائِطَ اُلْجُرحِ
فَتَنَاثَرَتْ جَوَانِبُهُ فَوَاكِهَ ضَوْءٍ".
2
مِنْ عِشْقِهِ خَضَّبَتِ اُلْأَبْجَدِيَّاتُ شَعْرَهَا
هُـوَ فَارِسٌ فَوْقَ جَوَادِ اُلشِّعْرِ
كَانَ يَقِفُ فَوْقَ نَعْشِ اُلْوَطَنِ
وَيُغَـنِّي...
3
فِي صَوْتِهِ تَكَسَّرَتْ كُلُّ اُلْأَحْلاَمِ
هُـنَا خُبْزٌ وَحَرْبٌ
قمْعٌ... حُطَامٌ
رَصَاصٌ يُصْغِي لِلْهَذَيَانِ اُلطَّائِشِ
وَمَوْتٌ قَادِمٌ مِنْ أَشْلاَءِ اُلنَّهَارِ.
نَزَعَ عَنِ اُلطُّوفَانِ عَبَاءَتَهُ
وَنَـامَ فِي زَوَايَاهُ.
4
بِاُلْأَمْـسِ.....
يَا لَحُزْنِ اُلْأَمْسِ يَسْكُبُ دِنَانَهُ !
في كُلِّ رُكْنٍ مَرْثِيَّـةٌ
تَمْلَأُ أَهْدَابَ اُلرُّوحِ مِنْ بَقَايَاهُ.
5
كَمْ كَانَ يَجْرِي طِفْلاً بَعْثَرَهُ اُلظُّلْمُ
تُـزَلْزِلُنَا خَـبَايَاهُ
وَبَيْنَ اُلْمَنَافِي كَانَتْ تَجْلِدُنَا حَكَايَاهُ !
6
أَذْكُرُ...
كَيْفَ اُرْتَوَتْ مِنْ نَبْضِهِ قَصَائِدِي
قَرَأَتْ أَحْزَانَ أَمْطَارِهِ
وَمَشَتْ تَحُثُّ خُطَاهَا إِلَيْهِ
تُصْغِي بذُهُولٍ لِفَقْدِه ِ !.
27 ـ 7ـ 2009
*"سقط القناع" قصيدة لمحمود درويش
==================
(8) آمال عوّاد رضوان
غَبَشُ شَهْقَةٍ ..
سَحَّها أَرِيجُ اللَّيْلِ عَلَى شَلاَّلِ الْغِيَابِ
فَاضَتْ شَجَنًا خَرِيفِيًّا عَلَى مَرْمَى وَطَنِي
هَا الْمَوْتُ..
كَمْ تَاهَ فِي نَقْشِ مَجْهُولٍِ
هَدْهَدَتْهُ هَمَسَاتُ فُصُولِكَ
بِسِكِّينِ وَهْمِهِ الْمَاضِي
قَصْقَصَ حِبَالَ ضَبَابِكَ
كَمْ رَاوَغَهُ هَمْسُ تَأَوُّهِكَ:
أَقِمْ مِحْرَقَةَ أَقْمَارِكَ بِأَدْغَالِ مَائِي
بِرُفَاتِ طَيْفِي الْمَسْلُوبِ
وَتَبَدَّدْ بِفَرَاشِي الأَزَلِيِّ!
حَبِيبَتِي / قَمَرِيَّةَ الرُّوحِ
حَيْثُنِي أَنْتِهِ وَلاَ أَنْتَهِي
بُعْدُكِ الأَشْعَثُ تَنَكَّرَ لِصَدَى مِلْحِي
قَوَّسَ حِبْرِيَ بِعَتْمٍِ يَحْتَدِمُ بِمُرِّ فَرَاغِكِ
قَوِّمِي كَبْوَةَ فَجْرٍ يَلْهَجُ بِفَوَانِيسِ الْوَفَاءِ
يَا انْحِنَاءَةَ نَبْضٍ مَبْتُورٍ
يَدْرُجُ عَلَى غَفْوَةِ شَوَاطِئِي
زَغْرِدِينِي دَمْعَةَ عِنَاقٍ
يُهَلْوِسُنِي / يَفِيضُنِي
ويَطْوِينِي بَحْرًا ظَامِئًا فِي عَيْنَيْكِ اللَّيْلاَوَيْنِ!
بِتُقَى جَنَّةٍ مُقَمَّشَةٍ سَلْسَبِلِينِي
عِطْرِيَ الـْ غَامَ ضَوْؤُهُ فِي بَيَاضِ مَآتِمِي
زُفِّيهِ دَمْعَةً.. / زُفِّينِي شَمْعَةً..
وَفَرْدِسِي نَوَارِسَ اشْتِعَالِي الْمُقَدَّسِ
بِنَوَاقِيسِ صَوَامِعِكِ
أَيَا دَرْوِيشُ..
ضِحْكَةُ مَوْتٍ تَسَلَّلَ دُجَاهَا الْمُغْبَرُّ
إِلَى نُخَاعِ عَصَافِيرِ رُوحِكَ.. تَكْتُمُهَا
وَمَا رَحَلَتَْ
لكِن ؛ ارْتَجَّ الْمَوْتُ.. تَزَلْزَلَ ظِلُّهُ
حِينَ زَلّتْ قَدَمُهُ بِدَمْعَتِكَ الْبَحْرِيَّةِ
حِينَ عَلَوْتَ بِمَرْكَبَتِكَ النَّارِيَّةِ
فَارًّا مِنْ قَبْضَتِهِ
يَدْحَضُ ضَبَابَ الْمَوْتِ بضَوْءِ حِبْرِهِ الْعَاشِقِ
هَا الْكَرْمِلُ غَامَ فِي دُوَارِ صَيْحَةٍ
دَرْوِيشُ بُحَّةُ وَطَنٍ جَاوَزَتْ أَنْفَاسَ النُّوَاحِ
يَا الْمُسْتَحِيلُ تَمَهَّلْ
لاَ تُبِحْ فَيْضَ سَنَابِلِهِ فِي مَهَبِّ غَفْوَةٍ
لاَ تُثَرْثِرْ غِمَارَ حَصَادِهِ الْهَائِمِ عَلَى حُفَرِ الرَّحِيلِ
بَحْرُ حَيْفَا.. جَاشَ موْجُهُ فِي مَآقِي الدّوَاةِ حِبْرًا
لاَ يَرْدمُهُ لَظَى حُرْقَةٍ
صَهِيلُ الدّّمْعِ هَيَّجَهُ دَرْوِيشُ
وَذَابِلاً تَوَسَّدَ ذِكْرَاهُ..
فَرَّ مِنْ نَوَافِيرِ الرِّيحِ
نُعَاسَ وَجَعٍ تَرَنَّحَ
عَلَى شِفَاهٍ غَائِرَةٍ بِرَحِيقِ ظِلِّهِ الدَّرْوِيشيِّ
درويشُ
لَمْلَمَتْهُ حَقَائِبُ مَسَافَاتٍ لاَ تَؤُوبُ
وَتَوَارَى غَمَامَاتٍ مُسْرَجَةٍ فِي ثُقُوبِ الدُّمُوعِ!
هُوَ الأَسِيرُ الْحُرُّ فِي الْوَقْتِ الصِّفْرِ!
هُوَ فَقِيدُ سِجْنِ حَيَاةٍ أُسْطُورِيَّةِ الْوَجَعِ
هُوَ وَلِيدُ حُرِّيَّةٍ تَنْبضُهُ خُلُودًا أَخْضَرَ
دَرْوِيشُ، يَا الْمُغْرِقُ فِي حُضُورِكَ الْبَهِيجِ أَبَدًا!
وَإِنْ وَارَتْكَ لَحْظَةٌ كَفِيفَةٌ بَيْنَ جَفْنَيْهَا
فَأَنْتَ الْعَابِرُ مِنَّا إِلَيْهَا شُعَاعًا
وَعَائِدٌ مِنْهَا إِلَيْنَا شَمْسًا
لاَ يَحْجُبُهَا غِرْبَالُ غِيَابٍ
بِشَفَقِكَ الدَّرْوِيشِيِّ أَسْمَعُ وَقْعَ خُطَى صَوْتِكَ
يَمْلأُ كَفَّيَّ بِكُلِّكَ
بِبَسْمَةِ حَرْفِكَ الْمَصْلُوبِ عَلَى دَمْعَةٍ
تَمْتَشِقُ حُلْمًا لاَ يَنْطَفِئُ وَإِنْ بَاغَتَتْهُ رِيحُ الْمَوْتِ!
ياااااااااااااااه
صَبَاحٌ لَيْسَ مَحْمُودًا كَكُلِّ الصَّبَاحَاتِ
صَبَاحٌ يَطْفَحُ بِعَطَشِكَ دَرْوِيشُ
وَشَّحَتْهُ أَسْرَابُ حُزْنٍ مَفْقُوءَةِ الْعُيُونِ
تُكَفِّنُكَ بِبَلَلِ صَفِيرِ نَشِيجِهَا
بِشِفَاهٍ حَارَّةٍ لاَمَسَتْ كُؤُوسَ دَمْعٍ كَوْنِيٍّ
نَعْشُ رِيحِكَ دَرْوِيشُ تَنَاثَرََتْهُ مُدُنُ الْغُرْبَةِ
وَمَا اتَّسَعَتْ لِوَجَعِكَ/نَا كُلُّ أَضْرِحَةِ الإِنْسَانِيَّةِ
==============
(9) قلب الهامش
: سوسن العريقي
أفتح كل النوافذ
حتى لا يسمعني أحد ..
وأنا أعد زفرات الصمت
المتشبعة بالحنين .
الأبيض والأسود ..
الأبواب الخشبية ..
وأبي في محاولاته اليائسة
للتآلف مع مرضه ..
والشارع المرصوف بخطواتنا ..
وأنا أصد الرياح المتكسرة
على حافة غصتي .
أتذكر خالد الشيخ
حين غنى لدرويش :
" سألتك هزي بأجمل كفٍ ..
على الماضي غصن الزمان
لتسقط أوراق ماضٍ وحاضر " .
القهوة تفتح لي باباً للخروج
لكنها تصلبني بعبقها
على باب غرفتي
الكانت تضج بأحلامي ..
وصوت خالد الشيخ
يتعالى في أعماقي
" ويولد في لمحةٍ توأمان
ملاكٌ وشاعر .......
........................
........................ "
ثمة يد تغلق النوافذ
وتمسح بكفها
دموع قهوتي ..!!
==========================
(10) درويش الذي رأى.؟!
باسم سليمان .
رئيس تحرير مجلة صافيتا الثقافية
يترك محمود درويش الحصان وحيدا!!!, ومن ثم يسأل ما هو الأبعد من زهر اللوز؟ وفي النهاية لا يريد لهذه القصيدة أن تنتهي ؟!.
هل سأل محمود درويش نفسه السؤال التالي : ماذا بقي من فلسطين أو الأحرى ماذا بقي من الفلسطينيين؟, لا ريب أنه فعل؛ لكن أين هو الجواب, هل في قطار سقط عن الخريطة أم أنّ جوابه سوف يأتي من المستقبل القريب والبعيد على السواء؟.
مَنْ يرَ الواقعَ الفلسطيني يدركْ حجم الهاوية الجديدة المتوازية والمتساوية مع الهاوية القديمة الحديثة المتمثلة بالاحتلال الإسرائيلي وهذه الهاوية التي بدأتْ تطفو على سطح الزمن الفلسطيني عبر خلافات هذا الشعب وخاصة بعد عدوان غزة الذي كان نجاحه الوحيد هو تعرية الواقع الفلسطيني المأزوم في علاقته مع قضيته , فالقضية صارت قضايا يتعارك بها الفلسطينيون مع أنفسهم وليس مع الاحتلال وكأن الاحتلال أمر مفروغ منه والدليل أن الاحتلال صار يشرعن لكل قضية يتحارب من أجلها الفلسطينيون وكلٌ يعتبره ضمن مصادر دعم وجوده في الشارع الفلسطيني المقسوم على نفسه .
وبعد هذا, كيف نفهم توجه محمود درويش شاعر القضية بامتياز ودعوته " أنقذونا من هذا الحب" إلى البعد الإنساني المباشر بعدما كان في شعره يأتي تاليا لشعر القضية ؟!, أليس في هذا من طبيعة الشاعر الرؤيوية ؟!, عندما يدرك ضيق شعر القضية في الأفق الإنساني وتوقعاته, ويجد أنّ الطريق لا بد سيسد عاجلا أو آجلا ,وكأنه يرى الواقع الحالي وما آلت له القضية , ألم يترك قبره نهبا للنسيان؟! وذكراه كأنها حدث هامشي على جدول الأجندة الفلسطينية المشغولة بخلافاتها الداخلية !!.
يبدو ما حدس به محمود صار أكثر من واقع وفلسطين صارت في كتب التاريخ وحل محلها القطاع وعزة وفلسطيني الشتات وعرب 48 ووو وسوف تستمر إضافة الواوات إلى مالا نهاية
وهنا نسأل مَن يريد أن يفتح كتب التاريخ ليتعرف إلى فلسطين أو يستذكرها في لحظة حنين , قد يكون الجواب متهكما كفاية , فالمختص لا يعول عليه والعربي سواء كان فلسطينيا أو عربيا من الدول الشقيقة كما أشقاء يوسف , سيكتفي كعادته بالوقوف على الأطلال !!!, إذاً على من راهن محمود درويش في إبقاء فلسطين في حيز الحاضر والذاكرة الفلسطينية والإنسانية, لقد راهن على الأدب ولكي تنجح مراهنته أدخله في السياق الإنساني العام مع الخاص هكذا اقتحم محمود درويش الحصار بطبيعتيه : الأولى المتأتية من الاحتلال والثانية من الوضع الفلسطيني المتدهور يوما بعد يوم ,بحيث تصبح فلسطين قضية أدبية بامتياز يعشقها كل محب للأدب وأخلاقية أيضا لابتعادها عن السياسي وتجاذباته ,وكونية , فمتذوق الأدب هو الإنسانية عبر زمنها الماضي والحاضر والمستقبل فلا يستطيع احتلال مصادرتها ولا خلافات البيت الفلسطيني تضيعها.
أنقذ محمود درويش فلسطين وجعلها في المتخيل الإنساني إذ أرشف لوجودها المعنوي والممتد عنه حكما المادي عندما يصبح الوقت ملائما .
هذه عبقرية محمود درويش فكم من الأمم زالت والدول اندثرت وخلدها أدبها؛هكذا قرأ محمود التاريخ واستشرف المستقبل مبتعدا عن الآني المجبول بالمصالح ليصل بفلسطين إلى الذاكرة الجمعية الإنسانية وبنفس الوقت بوصلة رؤيوية للفلسطيني المعمي بواقعه المر.
فلسطين قصيدة لن تنتهي والواقع الفلسطيني الآن هو إلى زوال؛ لتشرق فلسطين من شعر محمود درويش أبدية الوجود.
==============
( 11) مشاركة الفنانة ابتهال توفيق .
=================
(12) مشاركة الفنانة إلهام بدران محفوظ .
25 آب, 2009 01:24:00