في خضم المشاكل التي تتعرض لها كردستان، وخسارتها للكثير من مكتسباتها الحاصلة عليها بمساعدة الدول الكبرى، أصبحت التحليلات والتأويلات شبه مقرفة، خاصة تلك التي أدت إلى تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن الكرد في أحلك الظروف، وغضها الطرف عن التدخل الإيراني -التركي السافر في القضية العالقة بين بغداد وجنوب كردستان، مع ذلك لا بد من عرضها وإلقاء الضوء على نقاط الضعف الكردي وأخطاء القيادة، أو قراءتهم الخاطئة لمواقف ومصالح الدول الكبرى، للخروج باستنتاج صحيح، عله يساندنا في مسيرتنا المستقبلية.
أغلب المحللين السياسيين يجدون بأن الجبهات التي فتحتها إيران في الدول المجاورة، والمناطق الطامحة للهيمنة عليها، تتجاوز قدراتها الاقتصادية قبل العسكرية، ولولا الدعم الروسي-الصيني، والحصول على دعم إضافي في استغلالها للبنية الاقتصادية للعراق الشيعية، واستخدام منافذها التجارية، وما حصلت عليها مؤخراً من المليارات الدولارات من إدارة أوباما بعد الاتفاقية النووية، استطاعت مواجهة أمريكا وأدواتها في المنطقة أقوى من ذي قبل، وصعدت من دعم أدواتها، وتطوير مفاعلها النووية، وقواتها العسكرية وخاصة الاستراتيجية كالصواريخ الباليستية، في مواجهة الحصار.
لا شك إدارة ترمب مطلعة على تفاصيل هذه القضايا، وتدرسها، مع ذلك تتغاضى عن الكثير لاستراتيجية بعيدة المدى، ولا يستبعد بأن جنوب كردستان كانت من أوائل أدواتها التي جرت عليها المقايضة، ليس مع إيران بل ومع تركيا، وسيرتفع أو يهبط سعر كردستان كلما تزايدت العلاقات الروسية معهما. ولهذا فإيران لكسب الميزان الاستراتيجي في المنطقة ترسخ على العلاقة مع روسيا، والتقرب من تركيا، متجاوزة الخلافات المذهبية –السياسية السابقة، للحصول على المزيد من التنازلات الأمريكية حول معاهدة مفاعلها النووية، كما وتستخدم في هذا أذرعها الخارجية، ورغم أن الجبهة الكردستانية خلقت عبئاً إضافيا، إلا أنها فعلتها كرسالة موجهة إلى أمريكا. فكردستان ومنذ عام 1991 وحتى اليوم تفرز كأحد أهم أدواتها في المنطقة، وأصبحت معروفة عالميا بأن أي اعتداء عليها اعتداء على أحد أصدقاء أمريكا في المنطقة، مع ذلك أقدمت إيران على الخطوة عن طريق أدواتها العراقية، أولاً كتهديد لمصالح أمريكا في المنطقة. وثانياً كعملية استباقية لعدم تجديد الحصار الاقتصادي عليها، فيما إذا تم إعادة تفعيل قضية المفاعل النووية، خاصة وأنها حصلت على حيادية بعض الدول الكبرى في العملية كفرنسا على خلفية استثماراتها الواسعة في إيران.
علماً وفي العمق الاستراتيجي أن ما يجري في كردستان هي من مجريات الحروب بالوكالة بين روسيا وأمريكا، والذين يقومون بها ليسوا سوى أدوات، إن كانت إيران أو تركيا أو كردستان، ولا شك هناك أدوات لأدوات، كالحشد الشعبي وحكومة العبادي لإيران، مثلما كانت داعش والمنظمات التكفيرية في المعارضة السورية المسلحة لتركيا.
ومن جهة أخرى لا يستبعد بأن أمريكا غضت الطرف عن التدخلات الإيرانية في جنوب كردستان وعلى مدى عقد كامل، وسمحت لها بإحداث شرخ بين الأطراف الكردستانية، علما بأن وزيرة خارجيتها كانت عرابة تجميد خلافاتهم، وشكلت منهم الفيدرالية الحالية، مع ذلك ورغم هذا الجهد تخلت بشكل مباشر عنهم لسلطة العراق المركزية، تحت اسم حيدر العبادي في الظاهر، وللحشد الشيعي الإيراني في الواقع، ولربما مقابل تكتيكات ساذجة، بدأتها إدارة أوباما، وتحفزها إدارة ترمب، تسبقها تهديدات بإلغاء الاتفاقية النووية، وإعادة العقوبات الاقتصادية، والتي في الواقع وحتى اللحظة، لم تتمكن من تحجيم طموحات قادة الهلال الشيعي في كردستان والتي هي البوابة نحو إسرائيل والدول السنية المجاورة، وفي الواقع هو انتصار مباشر لروسيا قبل إيران وتركيا على أمريكا في الحروب الجارية بينهما بالوكالة في المنطقة.
لا شك أن الولايات المتحدة الأمريكية، وبشكل خاص وزارتها الخارجية، ومراكز الدراسات الاستراتيجية الأمريكية، وخاصة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، يملكون المعرفة والخبرة الواسعة عن إيران ومخططاتها، لكنهم لم يتفقوا على نتيجة منطقية تعتمد عليها استراتيجية البيت الأبيض أو بالأحرى الوزارة الخارجية ووزيرها الحالي، في التعامل مع قضايا الشرق الأوسط، وخاصة القضية الإيرانية أو لنقل قضية المد الشيعي، وعليه ورغم سنوات الحصار، وتوجيه الحلف السني ضدها لا تزال القوة الأكثر فعالية، والمنتصرة في معظم صراعاتها في المنطقة، وعلى الأغلب الهجوم على كردستان عن طريق شيعتها في العراق لم تكن ضمن مخططها الاستراتيجي، بقدر ما هي ضربة لأمريكا، وبوابة للتوسع، وتبقى أن إدارة ترمب تتكتم وكأنه تخاذل لتمرير تكتيكاتهم المخططة في حروبهم بالوكالة.
ومنطق الإدارة الأمريكية هذا يفرض علينا عرض عدة إشكاليات وأسئلة، منها: هل يريدون تفعيل تكتيك الضغط غير المجدي على إيران التقرب منها، وإبقائها قوية لمواجهة الدول السنية في المنطقة؟ أو استخدامها كحلقة من حلقات صراعها مع روسيا كالقوى السنية في المنطقة؟ وفي الحالتين وخاصة في الأخيرة تبدي وزارة الخارجية الأمريكية سذاجة أضحل من الأولى.
وفيما إذا عزلنا الإشكالية السابقة، فلا بد وأن تبرز أمامنا احتمالية أخرى لا تقل عن الأولى بساطة، وهي لربما هناك من يقف وراء مخطط رهيب لحجم الإمبراطورية الأمريكية في المنطقة على حساب روسيا وعن طريق التوسع الإيراني-الروسي، وهنا لا نستبعد أن تسقط بعض الدول السنية في المنطقة في نفس المستنقع الذي سقطت فيه جنوب كردستان، لتتبعها أو رضوخها للاستراتيجية الأمريكية دون تقوية الداخل الكردستاني، والإشكالية لربما ناتجة بسبب تفضيل إدارة ترمب الأرباح الاقتصادية على الهيمنة الإمبراطورية، كما يظهر، وهذه ستؤدي إلى توسع النفوذ الروسي، وتراجع الدور الأمريكي في الشرق الأوسط.
وهنا بالضبط، وليس دفاعا عن الكرد، بل كواقع سيتوضح قريبا، أنهم كانوا ضحية مصالح اقتصادية، أو لربما من طرف آخر، الضعف الأمريكي والتي تعكسها وزارة الخارجية الأمريكية المتعارضة ومواقف البنتاغون، والتي ترى الكرد أحد ابسط الأدوات وأسهل العملات للمقايضة، والممكن استخدامها وتداولها في أية لحظة والتخلي عنها بسهولة، فالكرد مقارنة بأدواتها الأخرى، لا تزال دون مستوى الاعتماد عليهم كقوة استراتيجية في المنطقة، رغم ما قدموه من خدمات للعالم أجمع بإسقاط أسطورة داعش. مع ذلك ففي المحافل السياسية، لم تتم حتى اللحظة إدراجهم بين القوى المعتمدة عليها في حروبهم بالوكالة، علما أن روسيا استخدمت إيران وهذه دفعت بشيعتها العراقية ضد أداتها الأصدق في المنطقة وهم البيشمركة، وبالسلاح الذي قدمته أمريكا لحكومة حيدر العبادي، لمحاربة داعش، والغريب أن وزارة الخارجية الأمريكية ترى تماما أن معظم سلاح الحشد الشعبي (الشيعي) هو نفس السلاح الذي قدمته لحكومة بغداد، وتعلم أن هذا الحشد يستخدمه لتطبيق الأجندات الإيرانية.
وفي هذا التخبط، حيث المواقف المتضاربة بين المؤسسات الأمريكية، فسرها بعض المحللين الاقتصاديين، بسيطرة المصالح الاقتصادية الشخصية لبعض الشركات، ومنها التي ترأسها سابقاً وزير الخارجية، والأفراد الأمريكيين، ومن بينهم أبناء الرئيس ترمب ذاته، على مصلحة الإمبراطورية الأمريكية ككل.
وإذا عزلنا هذه الجدلية عن الإشكاليات التي تواجه الوجود الأمريكي في المنطقة، فإننا سنظل في واقع الاستراتيجية الخاطئة والتي لا يوافق عليها العديد من أقطابها السياسة، بينهم أعضاء في المجلسين الشيوخ والنواب ومن الحزبين، ومعهم وزارة الدفاع، وخاصة قادة من البنتاغون، الذين كثيرا ما يوضحونها دون التدخل المباشر في المجال السياسي، وبينهم من بدأ بالانتقال من منطق تأييد القضية الكردية كبعد فيدرالي ضمن العراق الاتحادي إلى التحدث عن كيان كردستاني مستقل، ونسبة هؤلاء في تزايد، وهو ما يمدنا بالثقة والأمل على أن قادم كردستان يبشر بالانتصار.
د. محمود عباس
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
22/10/2017م